للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ يَجِبُ عَلَيْهَا الصَّوْمُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا يُشِيرُونَ بِهَذِهِ التَّوْسِعَةِ إلَى عَدَمِ تَحَتُّمِ الصَّوْمِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ حَتَّى لَا يَجْتَمِعَ الْوُجُوبُ وَالْإِثْمُ فِي الْفِعْلِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ لَا يُمْنَعُ وَهَذِهِ تُمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهَا وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهَا بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] وَهِيَ شَهِدَتْ الشَّهْرَ فَيَلْزَمُهَا الصَّوْمُ لِعُمُومِ النَّصِّ وَثَانِيهَا أَنَّهَا تَنْوِي رَمَضَانَ وَلَوْلَا تَقَدُّمُ الْوُجُوبِ لَمَا كَانَ لِهَذَا الصَّوْمِ بِرَمَضَانَ تَعَلُّقٌ وَثَالِثُهَا أَنَّ الْقَضَاءَ يُقَدَّرُ بِقَدَرِ الْأَدَاءِ الْفَائِتِ فَأَشْبَهَ قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الْأَعْيَانِ الْمُتْلَفَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا الْقَضَاءُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبِ الَّذِي فَاتَ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ يَقُومُ هَذَا الْقَضَاءُ مَقَامَهُ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ عُمُومَ النَّصِّ يَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِالدَّلِيلِ الضَّرُورِيِّ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْوَاجِبِ مَا لَا يُمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ وَهَذِهِ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْفِعْلِ وَلَمَّا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ ذَلِكَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا بِالضَّرُورَةِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَوْجَبَ عَلَى مُكَلَّفٍ شَيْئًا وَيُعَاقِبُهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يُعَاقِبُهُ إذَا فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ.

وَهَذَا لَمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلًا وَنَحْنُ وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَرِدْ بِهَذَا الْجَائِزِ بَلْ بِالرَّحْمَةِ وَتَرْكِ الْمَشَاقِّ وَالتَّيْسِيرِ وَالْإِحْسَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومَ النَّفْيِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ فَيُتَخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْآيَةِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِهَا

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ تَرَتُّبِهَا فِي الذِّمَمِ بِخِلَافِ الدُّيُونِ.

قَالَ (وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ يَجِبُ عَلَيْهَا الصَّوْمُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا يُشِيرُونَ بِهَذِهِ التَّوَسُّعَةِ إلَى عَدَمِ تَحَتُّمِ الصَّوْمِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ حَتَّى لَا يَجْتَمِعَ عَلَيْهَا الْوُجُوبُ وَالْإِثْمُ فِي الْفِعْلِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ لَا يُمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ وَهَذِهِ تُمْنَعُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهَا) قُلْتُ إنْ سَلَّمَ الْحَنَفِيَّةُ مَنْعَهَا مِنْ الصَّوْمِ فَكَيْفَ يَقُولُونَ بِوُجُوبِهِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ إلَّا أَنْ يَعْنُوا بِذَلِكَ أَنَّ التَّعْوِيضَ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ مُوَسَّعُ الْوَقْتِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ أَمَّا أَنْ يَعْنُوا بِذَلِكَ التَّوْسِعَةَ فِي إيقَاعِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ أَوْ غَيْرِهَا فَذَلِكَ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ.

قَالَ: (وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهَا بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] وَهِيَ شَهِدَتْ الشَّهْرَ فَيَلْزَمُهَا الصَّوْمُ لِعُمُومِ النَّصِّ، وَثَانِيهَا: أَنَّهَا تَنْوِي رَمَضَانَ وَلَوْلَا تَقَدُّمُ الْوُجُوبِ لَمَا كَانَ لِهَذَا الصَّوْمِ بِرَمَضَانَ تَعَلُّقٌ وَثَالِثُهَا أَنَّ الْقَضَاءَ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْأَدَاءِ الْفَائِتِ فَأَشْبَهَ قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الْأَعْيَانِ الْمُتْلَفَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا الْقَضَاءُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبِ الَّذِي فَاتَ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ يَقُومُ هَذَا الْقَضَاءُ مَقَامَهُ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ عُمُومَ النَّصِّ يَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِالدَّلِيلِ الضَّرُورِيِّ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْوَاجِبِ مَا لَا يُمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ وَهَذِهِ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْفِعْلِ إلَى قَوْلِهِ فَيُتَخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْآيَةِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِهَا)

قُلْتُ إنْ أَرَادَ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْمُوَافَقَةِ لَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ وَاضْرِبْهُ فِي مُنَافَاةِ الْمَفْهُومِ لِلْمَنْطُوقِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ بِلَا شَكٍّ أَنْ يُقَالَ لَا تَقُلْ لَهُ أُفٌّ وَاضْرِبْهُ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ لَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ وَهُوَ حُرْمَةُ الضَّرْبِ يُنَاقِضُ مَنْطُوقَ اضْرِبْهُ وَهُوَ جَوَازُ الضَّرْبِ وَمَفْهُومُ اضْرِبْهُ وَهُوَ جَوَازُ أَنْ يُقَالَ لَهُ أُفٍّ يُنَاقِضُ مَنْطُوقَ لَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ وَهُوَ حُرْمَةُ أَنْ يُقَالَ لَهُ أُفٍّ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَدِّ زَكَاةَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَنْطُوقَيْنِ مَعَ الْمَفْهُومَيْنِ مُتَعَارِضَانِ وَالْمَنْطُوقُ أَقْوَى مِنْ الْمَفْهُومِ فَيَنْدَفِعُ الْمَفْهُومَانِ فَلَا يَبْقَى لِذِكْرِ الْقَيْدَيْنِ فَائِدَةٌ إذْ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ الْمَفْهُومَةِ وَيَكُونُ بِمَثَابَةِ قَوْلِك أَدِّ زَكَاةَ الْغَنَمِ فَيَضِيعُ ذِكْرُ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ بِخُصُوصِهِمَا وَاللَّازِمُ أَعْنِي صِحَّةَ أَنْ يُقَالَ أَدِّ زَكَاةَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ.

وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَيَمْنَعُ الْمُلَازَمَةَ بِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا أَنَّ دَلَالَةَ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ قَطْعِيَّةٌ وَدَلَالَةُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ظَنِّيَّةٌ.

وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِي الظَّوَاهِرِ مَعَ إمْكَانِ الصَّرْفِ عَنْ مَعَانِيهَا لِدَلِيلٍ وَدَفْعُ التَّنَاقُضِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي ذِكْرِ الْقَيْدَيْنِ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ عَدَمُ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْعَامِّ فَإِنَّ الْعَامَّ ظَاهِرٌ فِي تَنَاوُلِ الْخَاصِّينَ وَيُمْكِنُ إخْرَاجُ أَحَدِهِمَا عَنْهُ تَخْصِيصًا لَهُ، إذَا ذَكَرَهُمَا بِالنُّصُوصِيَّةِ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمَفْهُومُ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَثْبُتَ خِلَافُهُ إذَا لَوْ ثَبَتَ خِلَافُهُ مَعَ ثُبُوتِهِ لَثَبَتَ التَّعَارُضُ بَيْنَ دَلِيلِ الْمَفْهُومِ وَدَلِيلِ خِلَافِهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَارُضِ وَاللَّازِمُ أَعْنِيَ عَدَمَ ثُبُوتِ خِلَافِ الْمَفْهُومِ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّ خِلَافَ الْمَفْهُومِ قَدْ ثَبَتَ فِي نَحْوِ {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: ١٣٠] فَإِنَّ قَوْلَهُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً فِي مَعْنَى الْوَصْفِ وَمَفْهُومُهُ عَدَمُ النَّهْيِ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْهُ وَقَدْ تَحَقَّقَ التَّحْرِيمُ فِي الْقَلِيلِ مَعَ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ كَمَا تَحَقَّقَ فِي الْكَثِيرِ لِتَحَقُّقِ الْوَصْفِ.

وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَبِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ فِي أَصْلِ الدَّلِيلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ حَقًّا وَثَبَتَ خِلَافُهُ أَحْيَانَا بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ لَا يُعَارِضُهُ دَلِيلُ الْمَفْهُومِ لِكَوْنِهِ ظَنِّيًّا.

وَثَانِيهِمَا: مَنْعُ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتَ التَّعَارُضُ لِقِيَامِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ وَيُخَالِفُهَا بِالدَّلِيلِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى اهـ مُلَخَّصًا مِنْ الْعَضُدِ وَالسَّعْدِ بِزِيَادَةٍ مِنْ الْمَحَلِّيِّ وَالْعَطَّارِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>