سِنِّي ظَاهَرَ مِنِّي وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ إنْ ضَمَّهُمْ إلَيْهِ ضَاعُوا وَإِنْ ضَمَمْتُهُمْ إلَيَّ جَاعُوا» قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَطْعِمِي وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ» يَقْتَضِي أَنَّهُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ الْحَالُ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ وَهَذَا هُوَ الطَّلَاقُ الْمُؤَبَّدُ.
وَالطَّلَاقُ إنْشَاءٌ فَيَكُونُ الظِّهَارُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ طَلَاقًا وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ وَالتَّغْيِيرِ وَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
(وَثَانِيهَا) أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي حَدِّ الْإِنْشَاءِ فَيَكُونُ إنْشَاءً؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ فَيَكُونُ سَبَبًا لَهُ وَالْإِنْشَاءُ مِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِمَدْلُولِهِ وَثُبُوتُ خَصِيصِيَّةِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ فَيَكُونُ إنْشَاءً كَالطَّلَاقِ.
(وَثَالِثُهَا) أَنَّهُ لَفْظٌ يَسْتَتْبِعُ أَحْكَامًا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّحْرِيمِ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إنْشَاءً كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّ خُرُوجَ هَذَا اللَّفْظِ عَنْ بَابِ الْإِنْشَاءِ بَعِيدٌ جِدًّا لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُ صَرِيحًا وَكِنَايَةً كَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ.
(وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ) أَنَّ قَوْلَهُمْ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْشِئُونَ الطَّلَاقَ بَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَزُولُ عِنْدَ النُّطْقِ بِهِ فَمَجَازٌ أَنْ يَكُونَ زَوَالُهَا؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ كَمَا قُلْتُمْ أَوْ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا الْخَبَرِ الْكَذِبِ لَا تَبْقَى امْرَأَتُهُ فِي عِصْمَتِهِ مَتَى الْتَزَمَ بِجَاهِلِيَّتِهِمْ، وَلَيْسَ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا يَأْبَى ذَلِكَ بَلْ لَعِبُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ الْتَزَمُوا أَنَّ النَّاقَةَ إذَا جَاءَتْ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْوَلَدِ تَصِيرُ سَائِبَةً، فَمَجَازٌ أَنْ يَلْتَزِمُوا ذَهَابَ الْعِصْمَةِ عِنْدَ كَذِبٍ خَاصٍّ، وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: ٢] الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ التَّكْذِيبَ مِنْ خَصَائِصِ الْخَبَرِ فَيَكُونُ ظِهَارُهُمْ خَبَرًا كَذِبًا الْتَزَمُوا عَقِيبَهُ ذَهَابَ الْعِصْمَةِ كَسَائِرِ مُلْتَزَمَاتِهِمْ الْبَاطِلَةِ، وَقَدْ عَدَّهَا الْعُلَمَاءُ نَحْوَ عِشْرِينَ نَوْعًا مِنْ التَّحْرِيمَاتِ الْتَزَمُوهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرَائِعِ.
وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ (فَإِنْ قُلْت) الْآيَةُ لَا تُؤَكِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ فَإِنَّ الْفِعْلَ فِيهَا مُضَارِعٌ لَا مَاضٍ، فَقَالَ يُظَاهِرُونَ وَلَمْ يَقُلْ ظَاهَرُوا بِصِيغَةِ الْمَاضِي حَتَّى يَتَنَاوَلَ الْجَاهِلِيَّةَ بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ أَوْ حَالَ نُزُولِهَا.
(قُلْت) بَلْ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِمَ ذَلِكَ وَأَدْخَلَ الْمَظَاهِرَ الْمَاضِيَةِ فِي عُمُومِ الْآيَةِ مِنْ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فَأَقَرَّ تَحْرِيمًا تُحِلُّهُ الْكَفَّارَةُ وَعَلَى مَا يَقُولُهُ السَّائِلُ يَكُونُ بَابًا آخَرَ تَجَدَّدَ فِي الشَّرِيعَةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْعَرَبُ قَدْ تَسْتَعْمِلُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ لِلْحَالَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ كَقَوْلِهِمْ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَصِلُ وَيَقْطَعُ تُرِيدُ هَذَا شَأْنُهُ أَبَدًا فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَمِنْهُ «قَوْلُ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ لَنْ يُخْزِيَك أَبَدًا إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَثَانِيهَا أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي حَدِّ الْإِنْشَاءِ إلَى آخِرِهِ) قُلْتُ وَهَذَا الْوَجْهُ أَيْضًا ظَاهِرٌ.
قَالَ (وَثَالِثُهَا أَنَّهُ لَفْظٌ يُسْتَتْبَعُ إلَى آخِرِهِ) قُلْتُ وَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ.
قَالَ (وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ إلَى قَوْلِهِ عِنْدَ كَذِبٍ خَاصٍّ) قُلْتُ: ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لَكِنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ.
قَالَ (وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إلَى آخِرِ الْجَوَابِ) قُلْتُ جَمِيعُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَيْ هَذَا شَأْنُكَ وَسَجِيَّتُكَ فِي جَمِيعِ عُمُرِكَ وَعَلَى هَذَا تَنْتَظِمُ الْآيَةُ.
(وَالثَّانِي) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِمَ تَنَاوُلَ الْآيَةِ لِلْمُظَاهَرَةِ الْمَاضِيَةِ أَيْضًا، وَأَدْخَلَ الْمُظَاهَرَةَ الْمَاضِيَةَ فِي عُمُومِهَا مِنْ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَإِلَّا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
(وَالثَّالِثُ) أَنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فَأَقَرَّ تَحْرِيمًا تُحِلُّهُ الْكَفَّارَةُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ عَيْنُ مَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا بَابٌ آخَرُ تَجَدَّدَ فِي الشَّرِيعَةِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ كَمَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِ مَا ذُكِرَ فَافْهَمْ (وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ أَيْضًا) فِي الْوَجْهِ الثَّانِي.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ تَرَتُّبَ التَّحْرِيمِ عَلَى الظِّهَارِ إذْ الَّذِي فِي الْآيَةِ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَطْءِ كَتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ تَطَهَّرْ قَبْلَ أَنْ تُصَلِّيَ لَا يُقَالُ الصَّلَاةُ مُحَرَّمَةٌ بَلْ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ التَّرْتِيبِ كَتَقْدِيمِ الْإِيمَانِ عَلَى الْفُرُوعِ وَتَقْدِيمِ الْإِيمَانِ بِالصَّانِعِ عَلَى تَصْدِيقِ الرُّسُلِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ التَّرْتِيبَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّحْرِيمَ اقْتِضَاءُ لَفْظِ الظِّهَارِ بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ كَالطَّلَاقِ مَعَ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ حَتَّى يَكُونَ إنْشَاءً لِجَوَازِ أَنْ يَقْتَضِيَ لَفْظُ الظِّهَارِ التَّحْرِيمَ وَالْكَفَّارَةَ لَا بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ بَلْ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ أَيْ جَعْلُهُ شَرْعًا سَبَبَ ذَلِكَ عُقُوبَةً كَمَا تَرَتَّبَ تَحْرِيمُ الْإِرْثِ عَلَى الْقَاتِلِ عَمْدًا، وَلَيْسَ الْقَتْلُ إنْشَاءً لِتَحْرِيمِ الْإِرْثِ، وَكَمَا تَرَتَّبَ التَّعْزِيرُ وَإِسْقَاطُ الْعَدَالَةِ وَالْعَزْلُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى الْخَبَرِ الْكَذِبِ فَلَا يَكُونُ إنْشَاءً إذْ الْإِنْشَاءُ إنَّمَا هُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللَّفْظُ وُضِعَ لِذَلِكَ التَّحْرِيمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَصِيَغِ الْعُقُودِ وَبِالْجُمْلَةِ فَكَوْنُهُ سَبَبًا بِالْقَوْلِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا بِالْإِنْشَاءِ بِدَلِيلِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِخْبَارَاتِ الْكَاذِبَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّارِعَ نَصَبَهَا أَسْبَابًا لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَالْأَعَمُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِمُطْلَقِ السَّبَبِيَّةِ عَنْ الْإِنْشَاءِ، وَلَا يُقَاسَ تَرَتُّبُ التَّحْرِيمِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى الظِّهَارِ عَلَى تَرَتُّبِ التَّحْرِيمِ عَلَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْأَوَّلِ الْعُقُوبَةُ عَلَى الْكَذِبِ وَجِهَةَ الثَّانِي دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ فَافْهَمْ (وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ أَيْضًا) فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْأَسْبَابِ فَلَا يَصِحُّ وَعَلَى صِحَّتِهِ فَهُوَ قِيَاسٌ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ الصَّرِيحِ مِنْ الْقُرْآنِ الْمُخْبِرِ عَنْ