وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الصَّفِّ الطَّوِيلِ فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ الِاسْتِقْبَالَ الْعَادِيَّ لَا الْحَقِيقِيَّ، وَالْعَادَةُ أَنَّ الصَّفَّ الطَّوِيلَ إذَا قَرُبَ مِنْ الشَّيْءِ الْقَصِيرِ الَّذِي يُسْتَقْبَلُ يَكُونُ أَطْوَلَ مِنْهُ، وَيَجِدُ بَعْضُهُمْ نَفْسَهُ خَارِجَةً عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ أَقْصَرُ مِنْ الصَّفِّ الطَّوِيلِ، وَإِذَا بَعُدَ ذَلِكَ الصَّفُّ الطَّوِيلُ بُعْدًا كَثِيرًا عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْقَصِيرِ يَجِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ فِي ذَلِكَ الصَّفِّ الطَّوِيلِ نَفْسَهُ مُسْتَقْبِلًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ الْقَصِيرِ فِي نَظَرِ الْعَيْنِ بِسَبَبِ الْبُعْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّخْلَةَ الْبَعِيدَةَ أَوْ الشَّجَرَةَ إذَا اسْتَقْبَلَهَا الرَّكْبُ الْعَظِيمُ الْكَثِيرُ الْعَدَدِ مِنْ الْبُعْدِ يَجِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الرَّكْبِ أَوْ الْقَافِلَةِ نَفْسَهُ قُبَالَةَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، وَيَقُولُ الرَّكْبُ بِجُمْلَتِهِ نَحْنُ قُبَالَةَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، وَنَحْنُ سَائِرُونَ إلَيْهَا وَإِذَا قَرُبُوا مِنْ الشَّجَرَةِ جِدًّا لَمْ يَبْقَ قُبَالَتَهَا إلَّا النَّفَرُ الْيَسِيرُ مِنْ ذَلِكَ الرَّكْبِ فَكَذَلِكَ الصَّفُّ الطَّوِيلُ بِمِصْرَ أَوْ بِخُرَاسَانَ لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ بِحَيْثُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُبْصِرُ الْكَعْبَةَ لَرَأَى نَفْسَهُ قُبَالَةَ الْكَعْبَةِ بِسَبَبِ الْبُعْدِ كَمَا قُلْنَا فِي الرَّكْبِ مَعَ الشَّجَرَةِ فَقَدْ حَصَلَ فِي حَقِّهِمْ الِاسْتِقْبَالُ الْعَادِيُّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الشَّرْعِيُّ وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْبَلَدَيْنِ الْمُتَقَارِبَيْنِ لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ لَرَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْسَهُ قُبَالَةَ الْكَعْبَةِ، فَهُمَا كَالصَّفِّ الطَّوِيلِ سَوَاءٌ وَالْجَمِيعُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ أَنَّ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الصَّفِّ الطَّوِيلِ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ) .
قُلْت: هَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا هُوَ جَوَابُ الْقَائِلِينَ بِالسَّمْتِ دَفْعًا لِاسْتِدْلَالِ الْقَائِلِينَ بِالْجِهَةِ عَلَيْهِمْ بِالصَّفِّ الطَّوِيلِ، وَلِلْقَائِلَيْنِ بِالْجِهَةِ أَنْ يَقُولُوا سَلَّمْنَا صِحَّةَ هَذَا الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ مُحَصِّلٌ لِمَقْصُودِنَا مِنْ الْقَوْلِ بِالْجِهَةِ وَغَيْرُ مُحَصِّلٍ لِمَقْصُودِكُمْ مِنْ الْقَوْلِ بِالسَّمْتِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ الْعَيْنُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْمُعَايَنَةِ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ مَعَ الْبُعْدِ وَمَآلِ قَوْلِكُمْ بِالسَّمْتِ الْعَادِيِّ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ إلَى قَوْلِنَا بِالْجِهَةِ، فَعَلَى التَّحْقِيقِ ذَلِكَ الْجَوَابُ لَيْسَ بِجَوَابٍ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَمْرُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَاعِدَةِ اسْتِلْزَامِ إيجَابِ الْمَجْمُوعِ لِوُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ هُوَ أَنَّ إيجَابَ الْمَجْمُوعِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ كُلِّ جُزْءٍ مُطْلَقًا كَانَ مَجْمُوعًا مَعَ غَيْرِهِ أَمْ غَيْرَ مَجْمُوعٍ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ أَمْرًا بِالْعِبَادَةِ وَبِكَوْنِهَا فِي وَقْتٍ، وَذَهَبَ الْجُزْءُ الثَّانِي وَهُوَ تَخْصِيصُهُ بِعَيْنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ يَبْقَى الْفِعْلُ وَاجِبًا.
الْأَمْرُ الثَّانِي اطِّرَادُ قَاعِدَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ لِوُجُوبِ رِعَايَتِهَا عَقْلًا فِي كُلِّ فِعْلٍ وَلَوْ تَعَبُّدِيًّا، وَمَعْنَى كَوْنِهِ تَعَبُّدِيًّا أَنَّ فِيهِ مَعْنًى لَمْ نَعْلَمْهُ لَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنًى.
وَقَالَ وَقَاعِدَةُ أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَا يَقْتَضِي الْقَضَاءَ بَلْ الْقَضَاءُ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ هُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ الْمُلَاحِظِينَ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ قَوْلُ مَنْ لَاحَظَ التَّسْوِيَةَ وَالْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِهِ. قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: وَفِي كَلَامِهِ هَذَا فِي هَذَا الْفَرْقِ ضُرُوبٌ مِنْ الْفَسَادِ لَا يَفُوهُ بِمِثْلِهَا مُحَصِّلٌ: الضَّرْبُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْقَاعِدَةِ الْأُولَى أَنَّ إيجَابَ الْمَجْمُوعِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ كُلِّ جُزْءٍ مُطْلَقًا، بَلْ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهَا أَنَّ إيجَابَ الْمَجْمُوعِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَجْزَاءِ مَجْمُوعًا مَعَ غَيْرِهِ مِنْهَا.
الضَّرْبُ الثَّانِي أَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَيَّنَ زَمَانُهُ لَا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَمَتَى قُدِّرَ انْفِكَاكُهُ عَنْهُ فَلَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْفِعْلُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الزَّمَانُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفِعْلِ الْمُوقَعِ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا فُعِلَتْ رَكْعَةٌ مُفْرَدَةٌ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَثَلًا لَا تَكُونُ جُزْءًا مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ جُزْءًا مِنْهَا إذَا فُعِلَتْ مَعَ أُخْرَى بِشَرْطِ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ نِيَّةٍ وَغَيْرِهَا.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اطِّرَادُ قَاعِدَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ بِمَعْنَى الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ رِعَايَتَهَا بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ مُجَوِّزَاتِ الْعَقْلِ لَا مِنْ مُوجِبَاتِهِ، وَالدَّلَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى رِعَايَةِ مَصَالِحِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَدُلَّ عَلَى رِعَايَتِهَا فِي جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ إذْ لَا نَعْلَمُ قَاطِعًا فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَتْ رِعَايَةُ الشَّارِعِ الْمَصَالِحَ بِحُكْمٍ مِنْهُ شَرْعِيٍّ فَيَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْقَطْعِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَيَجُوزُ عَقْلًا شَرْعُ أَمْرٍ مَا لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ فِيهِ إلَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الثَّوَابِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ قَاعِدَةُ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ مُطَّرِدَةً إلَّا إذَا أُرِيدَ بِالْمَصَالِحِ الْمَنَافِعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ دُنْيَوِيَّةً أَوْ أُخْرَوِيَّةً فَافْهَمْ.
الضَّرْبُ الرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْفَرْقِ أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِأَفْعَالٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِمَصْلَحَةٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ وُجُودِهَا فِي غَيْرِهِ يَدُلُّ لَفْظُ تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى عَدَمِ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ فَإِنْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ دَلَّ الْأَمْرُ الثَّانِي إلَخْ لَيْسَ بِصَحِيحَيْنِ إلَّا عَلَى تَسْلِيمِ دَعْوَى عُمُومِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِقَاطِعٍ.
الضَّرْبُ الْخَامِسُ أَنَّ مَنْ قَالَ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ لَمْ يُلَاحِظْ ذَلِكَ الْفَرْقَ بَلْ لَاحَظَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُؤَقَّتَ لَا يَقْتَضِي الْقَضَاءَ فَلَا بُدَّ فِي شَرْعِ الْقَضَاءِ مِنْ أَمْرٍ جَدِيدٍ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ الْقَضَاءُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَا يَقُولُ إنَّهُ مِنْ مُقْتَضَاهُ لَفْظًا بَلْ يَقُولُ إنَّهُ مِنْ مُقْتَضَاهُ قِيَاسًا عَلَى الْحُقُوقِ الْمُتَرَتِّبَةِ فِي الذِّمَمِ اهـ. كَلَامُ ابْنِ الشَّاطِّ وَفِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ مَعَ شَرْحِ الْمَحَلِّيِّ مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْأَمْرُ بِشَيْءٍ مُؤَقَّتٍ يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ لَهُ إذَا لَمْ