للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِالِاسْتِقْبَالِ الْعَادِيِّ دُونَ الْحَقِيقِيِّ مَعَ الْبُعْدِ وَمَعَ الْقُرْبِ الْوَاجِبُ الِاسْتِقْبَالُ الْحَقِيقِيُّ.

حَتَّى إنَّهُ إذَا صُفَّ صَفٌّ مَعَ حَائِطِ الْكَعْبَةِ فَصَادَفَ أَحَدُهُمْ نِصْفَهُ قُبَالَةَ الْكَعْبَةِ وَنِصْفَهُ خَارِجًا عَنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَسْتَقْبِلَ بِجُمْلَتِهِ الْكَعْبَةَ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ اسْتَدَارَ، وَكَذَلِكَ الصَّفُّ الطَّوِيلُ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ يُصَلُّونَ دَائِرَةً أَوْ قَوْسًا إنْ قَصُرُوا عَنْ الدَّائِرَةِ وَفِي الْبُعْدِ يُصَلُّونَ خَطًّا مُسْتَقِيمًا بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّقْرِيرِ، وَأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا خَطًّا مَعَ الْبُعْدِ يَكُونُونَ مُسْتَقْبِلِينَ عَادَةً بِخِلَافِهِمْ مَعَ الْقُرْبِ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِقْبَالِ السَّمْتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِقْبَالِ الْجِهَةِ.

وَصَحَّ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَانْدَفَعَتْ الْإِشْكَالَاتُ الَّتِي عَلَيْهَا وَهُوَ مِنْ الْمَوَاطِنِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفُقَهَاءُ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا حَرَّرَهُ هَذَا التَّحْرِيرَ إلَّا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدَّسَ رُوحَهُ فَلَقَدْ كَانَ شَدِيدَ التَّحْرِيرِ لِمَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْقُولِهَا وَمَنْقُولِهَا، وَكَانَ يُفْتَحُ عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ لَا تُوجَدُ لِغَيْرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً.

(الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهُ فِي الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ وَالِاسْتِحْقَاقَات الشَّرْعِيَّةِ)

اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، فَيُقَدَّمُ فِي وِلَايَةِ الْحُرُوبِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِمَكَائِدِ الْحُرُوبِ وَسِيَاسَةِ الْجُيُوشِ وَالصَّوْلَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَالْهَيْبَةِ عَلَيْهِمْ، وَيُقَدَّمُ فِي الْقَضَاءِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَشَدُّ تَفَطُّنًا لِحِجَاجِ الْخُصُومِ وَخُدَعِهِمْ، وَهُوَ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

بَلْ تَسْلِيمٌ لِقَوْلِ الْمُخَالِفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: (الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهُ فِي الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ وَالِاسْتِحْقَاقَات الشَّرْعِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ إلَى قَوْلِهِ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

يُفْعَلْ فِي وَقْتِهِ لِإِشْعَارِ الْأَمْرِ بِطَلَبِ اسْتِدْرَاكِهِ أَيْ الْفِعْلِ إنْ لَمْ يَقَعْ فِي وَقْتِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْفِعْلُ أَيْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْوَقْتِ أَوْ خَارِجِهِ.

وَقَالَ الْأَكْثَرُ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ كَالْأَمْرِ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «إذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنْ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» ، وَالْقَصْدُ مِنْ الْأَمْرِ الْفِعْلُ فِي الْوَقْتِ لَا مُطْلَقًا اهـ.

وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّا إذَا تَعَقَّلْنَا صَوْمًا مَخْصُوصًا وَقُلْنَا: صُمْ صَوْمَ يَوْمِ الْخَمِيسِ فَقَدْ تَعَقَّلْنَا أَمْرَيْنِ وَتَلَفَّظْنَا بِلَفْظَيْنِ، وَأَمَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ أَوْ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَصْدُقَانِ عَلَيْهِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا مِثْلِ صَوْمِ يَوْمِ الْخَمِيسِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمَنْ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ جَعَلَ الْقَضَاءَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْئَانِ فَإِنْ انْتَفَى أَحَدُهُمَا بَقِيَ الْآخَرُ وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الثَّانِي جَعَلَ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ فَإِذَا انْتَفَى سَقَطَ الْمَأْمُورُ بِهِ ثُمَّ اخْتِلَافُهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْقَيْدَ بِحَسَبِ الْوُجُودِ شَيْئَانِ أَوْ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْمَعْنَيَانِ نَاظِرِينَ إلَى اخْتِلَافٍ فِي أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ تَرَكُّبَ الْمَاهِيَّةِ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَتَمَايُزَهُمَا هَلْ هُوَ بِحَسَبِ الْخَارِجِ أَوْ مُجَرَّدِ الْعَقْلِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ كَانَ الْمُطْلَقُ وَالْقَيْدُ شَيْئَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، وَهُوَ الْحَقُّ كَانَا بِحَسَبِ الْوُجُودِ شَيْئًا وَاحِدًا كَذَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْعَضُدِ، وَحَاصِلُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمَحَلِّيُّ بِقَوْلِهِ وَالْقَصْدُ مِنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ إلَخْ مِنْ رَدِّ قَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْفِعْلُ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الْكَوْنَ فِي الْوَقْتِ بِهِ كَمَالُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ بَقَاءَ الْوُجُوبِ مَعَ النَّقْصِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَبْقَى إذَا انْفَرَدَ بِهِ الطَّلَبُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَطْلُوبُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقَدْ انْتَفَى بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ أَفَادَهُ الشِّرْبِينِيُّ قَالَ الْعَطَّارُ: وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَحَلِّيُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ قَصْدًا بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ وَالتَّتِمَّةِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَلَا يُقَالُ إنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْقَضَاءِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ اهـ.

قُلْت وَمِنْهُ يُعْلَمُ أُمُورٌ: الْأَمْرُ الْأَوَّلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ بِمَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ جَمِيعَ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنْ ضُرُوبِ الْفَسَادِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى مِنْ اسْتِلْزَامِ الْمَجْمُوعِ لِوُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ مَبْنِيَّةٌ كَقَوْلِ الرَّازِيّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ بِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ يُوجِبُ الْقَضَاءَ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْقَيْدَ بِحَسَبِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ شَيْئَانِ مُتَمَايَزَانِ تَمَايُزَ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ بِحَسَبِ الْخَارِجِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ. وَالْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْقَيْدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْمَعْنَيَانِ، وَيَتَمَيَّزَانِ فِيهِ تَمَيُّزَ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ بِهِ وَيَكُونُ سِرُّ هَذَا الْفَرْقِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ.

الْأَمْرُ الثَّانِي انْدِفَاعُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ عَنْ كَلَامِ الْأَصْلِ إذْ لَا يَتَّجِهُ عَدَمُ صِحَّةِ قَاعِدَةِ أَنَّ إيجَابَ الْمَجْمُوعِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ كُلِّ جُزْءٍ مُطْلَقًا إلَّا إذَا قُلْنَا بِبِنَائِهَا عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْقَيْدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، أَمَّا إذَا بَنَيْنَاهَا عَلَى أَنَّهُمَا شَيْئَانِ فَلَا يَتَّجِهُ ذَلِكَ.

الْأَمْرُ الثَّالِثُ انْدِفَاعُ الضَّرْبِ الثَّانِي أَيْضًا حَيْثُ بُنِينَا عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْقَيْدَ شَيْئَانِ لَا شَيْءٌ وَاحِدٌ إذْ لَا يَتِمُّ قِيَاسُ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى كَوْنِهَا مُفْرَدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَثَلًا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هِيَ نَفْسُ الصُّبْحِ إلَّا إذَا بُنِيَتْ تِلْكَ الْقَاعِدَةُ عَلَى أَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ فَافْهَمْ. الْأَمْرُ الرَّابِعُ انْدِفَاعُ

<<  <  ج: ص:  >  >>