للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِإِنْذَارِ الْمِئِينَ مِنْ السِّنِينَ وَآدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَوْنِهِ أَبَا الْبَشَرِ مَعَ تَفْضِيلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجَمِيعِ فَلَوْلَا هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَهِيَ تَجْوِيزُ اخْتِصَاصِ الْمَفْضُولِ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ لَلَزِمَ التَّنَاقُضُ وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ إنَّمَا هُوَ بِالطَّاعَاتِ وَكَثْرَةِ الْمَثُوبَاتِ وَالْأَحْوَالِ السُّنِّيَّاتِ وَشَرَفِ الرِّسَالَاتِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَلِيَّاتِ فَمَنْ كَانَ فِيهَا أَتَمَّ فَهُوَ أَفْضَلُ وَكَذَلِكَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا هُوَ بِمَجْمُوعِ مَا فِيهَا فَقَدْ يَخْتَصُّ الْمَفْضُولُ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ كَاخْتِصَاصِ الْجِهَادِ بِثَوَابِ الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ وَالْحَجُّ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فِيهِ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَهُوَ يَقْتَضِي الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَالتَّبِعَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ كَانَ كَذَلِكَ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْ الْخَطِيئَاتِ وَضَمِنَ عَنْهُمْ التَّبِعَاتِ» وَالصَّلَاةُ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَصَّ الْمَفْضُولُ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا يَفِرُّ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْضِيلُهُ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَفْضُولَاتِ مِنْهَا مَا يُطَّلَعُ عَلَى سَبَبِ تَفْضِيلِهِ وَمِنْهَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِ الْمَنْقُولِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ كَتَفْضِيلِ مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ وَهَذِهِ أُمُورٌ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِيَّاتِ وَمِنْ تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالنُّصُوصِ وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هَهُنَا تَحْرِيرُ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهَا أَمَّا جُزْئِيَّاتُ الْمَسَائِلِ فَفِي مَوَاضِعِهَا تَنْبِيهٌ يُطَّلَعُ مِنْهُ عَلَى تَفْضِيلِ الصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَنَقُولُ تَقَرَّرَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعِبَادِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ

أَحَدُهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

جُحْرِهَا» أَيْ تَأْوِي.

وَسَادِسُهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» .

وَسَابِعُهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» وَكَتَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي مُقَابِلِ مَشْهُورِ مَذْهَبِنَا فَمِنْ جِهَةِ الْمَعْلُومِ بِوُجُوهٍ

أَحَدُهَا وُجُوبُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَالْإِتْيَانُ لِلْمَدِينَةِ لَا يَجِبُ

وَثَانِيهَا إقَامَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا

وَثَالِثُهَا مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا حَجَّهَا آدَم فَمَنْ سِوَاهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّمَا كَثْرَةُ الطَّارِئِينَ لِلْمَدِينَةِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ لَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ.

وَرَابِعُهَا وُجُوبُ اسْتِقْبَالِهَا

وَخَامِسُهَا تَحْرِيمُ اسْتِقْبَالِهَا وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ

وَسَادِسُهَا تَحْرِيمُهَا يَوْمَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ تُحَرَّمْ الْمَدِينَةُ إلَّا فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَسَابِعُهَا كَوْنُهَا مَثْوَى إبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -.

وَثَامِنُهَا كَوْنُهَا مَوْلِدَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَتَاسِعُهَا كَوْنُهَا لَا تُدْخَلُ إلَّا بِإِحْرَامٍ وَعَاشِرُهَا الِاغْتِسَالُ لِدُخُولِهَا دُونَ الْمَدِينَةِ وَمِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ بِوُجُوهٍ.

أَحَدُهَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: ٢٨]

وَثَانِيهَا ثَنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: ٩٦]

وَثَالِثُهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ وَبَكَى طَوِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي فَقَالَ يَا عُمَرُ هَهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» وَرُوِيَ أَنَّ أُبَيًّا قَالَ لَهُ إنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ لِسَانٌ ذَلِقٌ يَشْهَدُ لِمَنْ قَبَّلَهُ وَاسْتَلَمَهُ وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ وَقِيلَ إنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَلْ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ قَالَ لَهُ وَكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ كَتَبَ كِتَابًا وَأَلْقَمَهُ هَذَا الْحَجَرَ فَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْوَفَاءِ وَعَلَى الْكَافِرِينَ بِالْجُحُودِ قَالَ الْأَمِيرُ فِي مَنَاسِكِهِ، وَإِنَّمَا طُلِبَ التَّكْبِيرُ عِنْدَهُ إشَارَةً إلَى أَنَّ تَقْبِيلَهُ إنَّمَا هُوَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِتَعْظِيمِهِ وَاقْتِدَاءً بِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا كَمَا يَصْنَعُ الْمُشْرِكُونَ بِأَصْنَامِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَهَهُنَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ هَذَا الْحَجَرَ مَسَّهُ فَمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ قَبَّلَهُ وَعَلَى التَّبَرُّكِ بِذَلِكَ تُبْذَلُ النُّفُوسُ وَأَيْضًا وَرَدَ أَنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مِنْ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ وَالنَّاسُ تَتَعَبَّدُ بِتَقْبِيلِهِ كَمَا تُقَبَّلُ أَيْدِي الْمُلُوكِ اهـ.

وَرَابِعُهَا مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَهُوَ يَقْتَضِي الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَالتَّبِعَاتِ لِأَنَّهُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْ الْخَطِيئَاتِ وَضَمِنَ عَنْهُمْ التَّبِعَاتِ» وَلَوْ كَانَ لِمَلِكٍ دَارَانِ فَأَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَأْتُوا إحْدَاهُمَا وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَغْفِرَةَ سَيِّئَاتِهِمْ وَرَفْعَ دَرَجَاتِهِمْ دُونَ الْأُخْرَى لَعُلِمَ أَنَّهَا أَفْضَلُ.

وَخَامِسُهَا قَدْ مَرَّ عَنْ الْبَاجِيَّ أَنَّ حَدِيثَ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ بِمِائَةِ أَلْفٍ إذَا ثَبَتَ صَرِيحًا فِي أَنَّ نَفْسَ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ نَفْسِ الْمَدِينَةِ، وَفِي الرَّهُونِيِّ عَنْ سَيِّدِي أَحْمَدَ بَابَا وَقَدْ كَثُرَ الِاحْتِجَاجُ فِي كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِمَا أَكْثَرُهُ خَصَائِصُ وَهِيَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْفَضِيلَةِ لَا الْأَفْضَلِيَّةِ لِأَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>