سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَمَوْطِنَ اسْتِقْرَارِ الدِّينِ وَظُهُورِ دَعْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَدْفِنِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَبِهَا كَمَلَ الدَّيْنُ وَاتَّضَحَ الْيَقِينُ وَحَصَلَ الْعِزُّ وَالتَّمْكِينُ وَكَانَ النَّقْلُ مِنْ أَهْلِهَا أَفْضَلَ النُّقُولِ وَأَصَحَّ الْمُعْتَمَدَاتِ؛ لِأَنَّ الْأَبْنَاءَ فِيهِ يَنْقُلُونَ عَنْ الْآبَاءِ وَالْأَخْلَافُ عَنْ الْأَسْلَافِ فَيَخْرُجُ النَّقْلُ عَنْ حَيِّزِ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ إلَى حَيِّزِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَمِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ بِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ» وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ نَصًّا فِي التَّفْضِيلِ غَيْرَ أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْمُتَعَلَّقِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ سَعَةِ الرِّزْقِ وَالْمَتَاجِرِ فَمَا تَعَيَّنَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَثَانِيهَا دُعَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْمَدْعُوِّ بِهِ فَيُحْمَلُ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ الصَّاعُ وَالْمُدُّ.
وَثَالِثُهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ إنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك» وَمَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ يَكُونُ أَفْضَلَ وَالظَّاهِرُ اسْتِجَابَةُ دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَسْكَنَهُ الْمَدِينَةَ فَتَكُونُ أَفْضَلَ الْبِقَاعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ السِّيَاقَ لَا يَأْبَى دُخُولَ مَكَّةَ فِي الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِإِيَاسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك مِمَّا عَدَاهَا، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ مَكَّةُ فِي الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَتَسْقُطُ الْحُجَّةُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَلَوْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ وَصْفِ الْمَكَانِ بِصِفَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ كَمَا يُقَالُ بَلَدٌ طَيِّبٌ أَيْ هَوَاهَا وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ أَيْ قُدِّسَ مَنْ فِيهَا، أَوْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَدَّسُونَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَكَذَلِكَ الْوَادِي الْمُقَدَّسُ أَيْ قُدِّسَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ وَالْمَلَائِكَةُ الْحَالُّونَ فِيهِ وَكَذَلِكَ وَصْفُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْبُقْعَةَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا مَا هُوَ مِنْ الْفِقْهِ فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ ذَكَرَ مَا هُوَ مِنْ الْفِقْهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِوَجْهٍ مَا فَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِمِنًى عِنْدَ التَّوَجُّهِ لِعَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا بِمَسْجِدِ مَكَّةَ، وَإِنْ انْتَفَتْ عَنْهَا الْمُضَاعَفَةُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ حَاشِيَةِ شَيْخِنَا عَلَى تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ عَلَى أَنَّ فِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيِّ عَلَى عبق عَنْ سَيِّدِي أَحْمَدَ بَابَا أَنَّ هَذَا تَضْعِيفُ نَوْعٍ مِنْ الْعِبَادَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ طَرْدُهُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا مَعَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَ مَا بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ» قَالَ: وَأَمَّا احْتِجَاجُ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي مَكَّةَ قِبْلَةَ وَكَعْبَةَ الْحَجِّ وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لَهَا مَزِيَّةً بِتَحْرِيمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إيَّاهَا بِقَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، وَإِنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ صَادَ بِحَرَمِهَا وَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ صَادَ بِحَرَمِ الْمَدِينَةِ وَبِأَنَّ جَمَاعَةً رَأَوْا أَنْ تُغَلَّظَ الْحُدُودُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ لِحُرْمَتِهِ وَلَا تُقَامَ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: ٩٧] وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَدِينَةَ مَوْطِنُ إقَامَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُهَاجَرِهِ وَمَوْطِنُ وَمُهَاجَرُ أَصْحَابِهِ الْمُجْمَعِ عَلَى أَنَّهُمْ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمَدْفِنُ جَسَدِهِ الشَّرِيفِ بَعْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ الْكَعْبَةِ وَمِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الرَّوْضَةَ الْمُشَرَّفَةَ أَفْضَلُ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ فَيَكُونُ مَا قَارَبَهَا وَجَاوَرَهَا أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ:
بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ
فَتَأَمَّلْهُ بِإِنْصَافٍ اهـ.
قُلْت: وَفِي الْحَطَّابِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ عَنْ الشَّيْخِ السَّمْهُودِيِّ فِي تَارِيخِ الْمَدِينَةِ نَقَلَ عِيَاضٌ وَقَبْلَهُ أَبُو الْوَلِيدِ وَالْبَاجِيِّ وَغَيْرُهُمَا الْإِجْمَاعَ عَلَى تَفْضِيلِ مَا ضَمَّ الْأَعْضَاءَ الشَّرِيفَةَ عَلَى الْكَعْبَةِ بَلْ نَقَلَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الْعَرْشِ وَصَرَّحَ التَّاجُ الْفَاكِهِيُّ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى السَّمَوَاتِ قَالَ بَلْ الظَّاهِرُ الْمُتَعَيَّنُ جَمِيعُ الْأَرْضِ عَلَى السَّمَوَاتِ لِحُلُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْأَكْثَرِ بِخَلْقِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا وَدَفْنِهِمْ فِيهَا لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَفْضِيلِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ أَيْ مَا عَدَا مَا ضَمَّ الْأَعْضَاءَ الشَّرِيفَةَ اهـ.
فَانْدَفَعَ قَوْلُ الْأَصْلِ إنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا الْمَدِينَةِ اهـ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ اللَّهِ مَكَّةَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ جَزَاءِ صَيْدِهَا وَرُؤْيَةِ تَغَلُّظِ الْحُدُودِ فِي حَرَمِهَا وَأَنَّهَا لَا تُقَامُ فِيهِ مَزَايَا تَقْتَضِي الْفَضِيلَةَ لَا الْأَفْضَلِيَّةَ،.
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا فَجَوَابُهُ كَمَا قَالَ الْأَصْلُ أَنَّ تِلْكَ الْعَشَرَةَ كَانَ كَمَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَمَالُ الدِّينِ فِيهَا أَتَمَّ وَأَوْفَرَ فَلَعَلَّ سَاعَةً بِالْمَدِينَةِ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ سَنَةٍ بِمَكَّةَ، أَوْ مِنْ جُمْلَةِ الْإِقَامَةِ بِهَا قَالَ الرَّهُونِيُّ.
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا «وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ» فَجَوَابُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ إمَّا إنَّهُ قَالَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِتَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ، أَوْ خَيْرِهَا مَا عَدَاهَا اهـ.
قُلْت: عَلَى أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي وُجُوهِ تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ إنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ» وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَإِنْ قَالَ: الْأَصْلُ إنَّ الثَّانِيَ مُطْلَقٌ فِي الْمُتَعَلِّقِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ سَعَةِ الرِّزْقِ وَالْمَتَاجِرِ وَأَنَّ سِيَاقَ الْأَوَّلِ يَقْتَضِي عَدَمَ دُخُولِ مَكَّةَ فِي الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِإِيَاسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك مِمَّا عَدَاهَا