للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْكَلَامِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ الْأَصْوَاتُ فَالْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطٍ هَلْ فِيهِ عُرْفٌ أَمْ لَا وَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» لَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ إلَّا الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ الْأَصْوَاتُ وَإِذَا قِيلَ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ الْقُرْآنُ إنَّمَا يَسْبِقُ إلَى الْفَهْمِ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ الْمُعْجِزُ وَالْعَرَبِيُّ الْمُعْجِزُ مُحْدَثٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَوَّلُ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ حَمْلًا لِلْقُرْآنِ عَلَى الْقَدِيمِ قَالَ صَاحِبُ الْخِصَالِ ابْنُ زَرْبٍ الْأَنْدَلُسِيُّ وَيُلْحَقُ بِالْقُرْآنِ عِنْدَ مَالِكٍ إذَا حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ أَوْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَوْ بِالتَّوْرَاةِ أَوْ بِالْإِنْجِيلِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ أَيْضًا ظَاهِرَةٌ فِي الْعُرْفِ الْمُحْدَثِ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ الْمُصْحَفِ إلَّا الْأَوْرَاقَ الْمَرْقُومَةَ الْمُجَلَّدَةَ بِالْجِلْدِ وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ وَكَذَلِكَ التَّنْزِيلُ وَالْإِنْزَالُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْحَادِثِ فَإِنَّ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةَ لَا تُفَارِقُ مَوْصُوفَهَا وَمَا يَسْتَحِيلُ مُفَارَقَتُهُ يَسْتَحِيلُ نُزُولُهُ وَطُلُوعُهُ وَمُطْلَقُ الْحَرَكَةِ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فَهُمَا كَلَفْظِ الْقُرْآنِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُمَا إلَّا الْكَلِمَاتُ الْخَاصَّةُ الَّتِي نَزَلَتْ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ وَمَا يُوصَفُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْ الْعِبْرَانِيَّةِ فَهُوَ مُحْدَثٌ بِالصُّورَةِ وَكَذَلِكَ قُلْنَا الْقُرْآنُ لِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: ٢] مُحْدَثٌ فَإِنَّ الْعَرَبِيَّةَ وَالْعَجَمِيَّةَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ كَانَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا وَلَا عَجَمِيًّا: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ إذَا قَالَ عَلِمَ اللَّهُ لَا فَعَلَتْ اسْتَحَبَّ لَهُ مَالِكٌ الْكَفَّارَةَ احْتِيَاطًا تَنْزِيلًا لِلَفْظِ عَلِمَ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ مَنْزِلَةَ عِلْمِ اللَّهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَعِلْمِ اللَّهِ لَا فَعَلَتْ.

وَقَالَ سَحْنُونٌ إنْ أَرَادَ الْحَلِفَ وَحَنِثَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَإِلَّا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ حُرُوفَ الْقَسَمِ قَدْ تُحْذَفُ فَهُوَ كِنَايَةٌ تَحْتَمِلُ الْقَسَمَ بِعِلْمِ اللَّهِ مَعَ حَذْفِ أَدَاةِ الْقَسَمِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْ الصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَإِنْ أَرَادَهُ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ فِعْلِهِ فَلَيْسَ بِحَلِفٍ تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ وَهُوَ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

كَمَا زَعَمَ بَلْ الْعُرْفُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَادِثُ وَذَلِكَ مُسْتَنَدُ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنْ قَرِينَةُ الْقَسَمِ صَرَفَتْ اللَّفْظَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَمْرُ الْقَدِيمُ وَذَلِكَ مُسْتَنَدُ مَالِكٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فَخِلَافُهُمَا فِي تَحْقِيقِ مَنَاطٍ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَسْوِيَةُ مَالِكٍ بَيْنَ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَالْمُصْحَفِ وَالتَّنْزِيلِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَعَ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُحْدَثُ قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ إذَا قَالَ عَلِمَ اللَّهُ لَا فَعَلْت اسْتَحَبَّ لَهُ مَالِكٌ الْكَفَّارَةَ احْتِيَاطًا إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ) قُلْت الْأَظْهَرُ نَظَرًا قَوْلُ سَحْنُونٍ وَلِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اسْتَحَبَّ مَالِكٌ الْكَفَّارَةَ وَلَمْ يُوجِبْهَا

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

لَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: ٢١] الْآيَةَ أَنَّ لِرَبْطِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا حِكَمًا وَمَصَالِحَ كَثِيرَةً مِنْهَا أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ إذَا تَحَمَّلُوا الْمَشَقَّةَ فِي الْحَرْثِ وَالْغَرْسِ طَلَبًا لِلثَّمَرَاتِ وَكَدُّوا أَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَمَّا احْتَاجُوا إلَى تَحَمُّلِ هَذِهِ الْمَشَاقِّ لِطَلَبِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَأَنْ يَحْتَاجُوا إلَى تَحَمُّلِ مَشَاقِّ الطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ أَقَلُّ مِنْ مَشَاقِّ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى لِأَنَّ مَشَاقَّ الطَّاعَةِ تُثْمِرُ الْمَنَافِعَ الْأُخْرَوِيَّةَ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ الدُّنْيَوِيَّةِ.

وَمِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِتَوَقُّفِ الشِّفَاءِ عَلَى الدَّوَاءِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِيَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ إذَا تَحَمَّلَ مَرَارَةَ الْأَدْوِيَةِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمَرَضِ فَلَأَنْ يَتَحَمَّلَ مَشَاقَّ التَّكْلِيفِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْعِقَابِ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَمِنْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ خَلَقَ الْمُسَبَّبَاتِ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ وَسَائِطِ أَسْبَابِهَا لَحَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِاسْتِنَادِهَا إلَى الْقَادِرِ الْحَكِيمِ وَذَلِكَ كَالْمُنَافِي لِلتَّكْلِيفِ وَالِابْتِلَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى كَافِرٌ وَلَا جَاحِدٌ حِينَئِذٍ فَلَمَّا خَلَقَهَا بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ ظَهَرَتْ حِكْمَةُ التَّكْلِيفِ وَالِابْتِلَاءِ وَتَمَيَّزَتْ الْفُرْقَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِالشَّقَاءِ عَنْ الْفُرْقَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالشَّقَاءِ لِأَنَّ الْمُهْتَدِيَ يَفْتَقِرُ فِي اسْتِنَادِهَا إلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ إلَى نَظَرٍ دَقِيقٍ وَفِكْرٍ غَامِضٍ فَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ وَلِهَذَا قِيلَ لَوْلَا الْأَسْبَابُ لَمَا ارْتَابَ مُرْتَابٌ وَمِنْهَا أَنَّهُ يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الِاسْتِبْصَارِ عِبَرٌ فِي ذَلِكَ وَأَفْكَارٌ صَائِبَةٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إلَّا الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.

وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَاتِّصَافِهِ بِالْكَمَالَاتِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِأَنْوَاعٍ إنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ وَكَانَ عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِأَحْوَالِ نَفْسِهِ أَظْهَرَ مِنْ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ غَيْرِهِ قَدَّمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهَا دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ عَلَى دَلَائِلِ الْآفَاقِ وَمِنْ دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ ثُمَّ ذِكْرُ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ بِقَوْلِهِ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.

وَمِنْ دَلَائِلِ الْآفَاقِ الْأَرْضُ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ السَّمَاءِ وَمَعْرِفَتُهُ بِحَالِهَا أَكْثَرُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِحَالِ السَّمَاءِ وَقَدَّمَ ذِكْرَ السَّمَاءِ عَلَى ذِكْرِ الْمَاءِ وَخُرُوجِ الثَّمَرَاتِ بِسَبَبِ الْمَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْأَثَرِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

<<  <  ج: ص:  >  >>