إلَّا بِسَبَبِهَا وَهُوَ الْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ وَالْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ وَنَحْوُهَا فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي هَذَا الْفَرْقِ مُطَّرِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْمُتَنَاوَلَاتِ.
(الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَحْرِيمِ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَحْرِيمِ سِبَاعِ الطَّيْرِ)
اعْلَمْ أَنَّ النَّوَاهِيَ تَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ فَمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا إلَّا لِمَفْسَدَةٍ تَحْصُلُ مِنْ تَنَاوُلِهِ وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ عَادَتَهُ أَنَّ الْأَغْذِيَةَ تَنْقُلُ الْأَخْلَاقَ لِخُلُقِ الْحَيَوَانِ الْمُتَغَذِّي بِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ الْعَرَبَ لَمَّا أَكَلَتْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ حَصَلَ عِنْدَهَا فَرْطُ الْإِيثَارِ بِأَقْوَاتِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْإِبِلِ فَيَجُوعُ الْجَمْعُ مِنْ الْإِبِلِ الْأَيَّامَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهَا مَا تَأْكُلُهُ مُجْتَمِعَةً فَيَضَعُ كُلٌّ مِنْهَا فَمَهُ فَيَتَنَاوَلُ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ مُدَافَعَةٍ عَنْ ذَلِكَ الْحَبِّ وَلَا يَطْرُدُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهُ وَلَا تَزَالُ الْإِبِلُ تَأْكُلُ عَلَفَهَا كَذَلِكَ بِالرِّفْقِ حَتَّى يَفْنَى جَمِيعُهُ مِنْ غَيْرِ مُدَافَعَةِ بَعْضِهَا بَعْضًا بَلْ مُعْرِضَةً عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ مِقْدَارِ مَا أَكَلَهُ غَيْرُهَا مِمَّا يُجَاوِرُهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ تُقَاتِلُ عِنْدَ الِاغْتِذَاءِ عَلَى حَوْزِ الْغِذَاءِ وَتَمْنَعُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهَا أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ فِي السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالْأَغْنَامِ وَغَيْرِهَا فَانْتَقَلَ ذَلِكَ لِخُلُقِ الْأَعْرَابِ فَحَصَلَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْإِيثَارِ لِلضَّيْفِ مَا لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ كَمَا أَنَّهُ حَصَلَ عِنْدَهُمْ الْحِقْدُ أَيْضًا لِأَنَّ الْجَمَلَ يَأْخُذُ ثَأْرَهُ مِمَّنْ آذَاهُ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ عَنْ خَاطِرِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ أَرْبَعًا أَكَلَتْ أَرْبَعًا فَأَفَادَتْهَا أَرْبَعًا أَكَلَتْ الْعَرَبُ لُحُومَ الْإِبِلِ فَأَفَادَتْهَا الْحِقْدَ وَأَكَلَتْ السُّودَانُ الْقُرُودَ فَأَفَادَتْهَا الرَّقْصَ وَأَكَلَتْ الْفِرِنْجُ الْخَنَازِيرَ فَأَفَادَتْهَا عَدَمَ الْغَيْرَةِ وَأَكَلَتْ التُّرْكُ الْخَيْلَ فَأَفَادَتْهَا الْقَسَاوَةَ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهَذِهِ السِّبَاعُ فِي غَايَةِ الظُّلْمِ وَقِلَّةِ الرَّحْمَةِ تَأْكُلُ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ غَيْرِ اكْتِرَاثٍ بِهَلَاكِ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ وَلَا فَسَادِ أَبْنِيَتِهَا وَلَا مَا تَجِدُهُ مِنْ الْأَلَمِ فِي تَمْزِيقِ أَعْضَائِهَا وَتَثِبُ عَلَى ذَلِكَ وَثَوْبًا شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ فِي ذَلِكَ لِحَاجَةٍ وَلِغَيْرِ حَاجَةٍ وَذَلِكَ لِفَرْطِ ظُلْمِهَا وَقِلَّةِ رَحْمَتِهَا وَذَلِكَ مُتَوَفِّرٌ فِي سِبَاعِ الْوَحْشِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ فَأَيْنَ الْأَسَدُ مِنْ الْعُقَابِ وَالصَّقْرِ وَأَيْنَ النَّمِرُ وَالْفَهْدُ مِنْ الضَّبُعِ وَالنِّسْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْحِدَآتِ وَالْغِرْبَانِ وَنَحْوِهَا فَلَمَّا عَظُمَتْ الْمَفْسَدَةُ وَالظُّلْمُ فِي سِبَاعِ الْوَحْشِ حُرِّمَتْ لِئَلَّا يَتَنَاوَلَهَا بَنُو آدَمَ فَتَصِيرُ أَخْلَاقُهُمْ كَذَلِكَ وَلَمَّا قَصُرَتْ مَفْسَدَةُ سِبَاعِ الطَّيْرِ عَنْ ذَلِكَ فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ نَهَضَ عِنْدَهُ ذَلِكَ لِلتَّحْرِيمِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ سُوءِ الْأَخْلَاقِ وَإِنْ قَلَّتْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَنْهَضْ عِنْدَهُ ذَلِكَ لِلتَّحْرِيمِ لِخِفَّةِ أَمْرِهِ فَاقْتَصَرَ بِهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَلَا يَبَرَّ إذَا كَانَ عَلَى حِنْثٍ إلَّا بِفِعْلِ الْجَمِيع فَإِذَا حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّهُ فَلَا يَبَرُّ إلَّا بِأَكْلِ جَمِيعِهِ لِأَنَّهُ عَلَى حِنْثٍ حَتَّى يَبَرَّ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ حُرْمَةٍ إلَى إبَاحَةٍ.
قَالَ الْأَصْلُ هَذَا التَّخْرِيجُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ إنْ ادَّعَوْا لِكَثْرَةِ نَظَائِرِهِمَا فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُمَا كُلِّيَّتَانِ فِي الشَّرِيعَةِ مَنَعْنَا تِلْكَ الدَّعْوَى لِانْدِرَاجِ صُورَةِ النِّزَاعِ فِيهَا فَلِلْخَصْمِ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقَائِلُ بِعَدَمِ الْحِنْثِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ تِلْكَ الدَّعْوَى لِأَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ قَلِيلَةٌ وَلَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً وَضَمُّوا إلَيْهَا أَمْثَالَهَا فَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الدَّعْوَةَ الْعَامَّةَ الْكُلِّيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالْمُثُلِ الْجُزْئِيَّةِ فَإِنَّهَا وَلَوْ انْتَهَتْ إلَى الْأَلْفِ اُحْتُمِلَ أَنَّهَا جُزْئِيَّةٌ لَا كُلِّيَّةٌ فَكَمْ مِنْ جُزْئِيَّةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِنَا كُلُّ عَدَدٍ زَوْجٌ: كُلِّيَّةٌ بَاطِلَةٌ بَلْ إنَّمَا تَصْدُقُ جُزْئِيَّةً فِي بَعْضِ الْأَعْدَادِ وَتِلْكَ الْأَعْدَادُ الَّتِي هِيَ زَوْجٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَا يُحْصَى عَدَدُهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَالْكُلِّيَّةُ كَاذِبَةٌ لَا صَادِقَةٌ، وَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهَا جُزْئِيَّةٌ احْتَاجُوا فِي تَخْرِيجِ صُوَرِ النِّزَاعِ عَلَيْهِمَا إلَى دَلِيلٍ آخَرَ أَنَّهُمَا جُزْئِيَّتَانِ يُوجِبُ كَوْنَ صُورَةِ النِّزَاعِ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ الْقِيَاسَ فَأَيْنَ الْجَامِعُ الْمُنَاسِبُ لِخُصُوصِ الْحُكْمِ السَّالِمِ عَنْ الْفَوَارِقِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَأَيْنَ هُوَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ.
وَأَمَّا تَخْرِيجُ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مَسْأَلَةَ الْحِنْثِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْبِرِّ وَعَدَمِ الْبِرِّ إلَّا بِجَمِيعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْحِنْثِ عَلَى قَاعِدَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَيْثُ قَالَ إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ فَهُوَ كَالْأَمْرِ أَوْ لَا يَفْعَلُ فَهُوَ كَالنَّهْيِ وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَجْزَائِهِ فَيَكُونُ فَاعِلُ الْجُزْءِ مُخَالِفًا وَالْمُخَالِفُ حَانِثٌ فَيَكُونُ فَاعِلُ الْجُزْءِ حَانِثًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ إنَّهُ تَخْرِيجٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ لِضَرُورَةِ تَحْصِيلِهِ وَلَا يَتَأَتَّى تَحْصِيلُهُ إلَّا بِتَحْصِيلِ أَجْزَائِهِ كَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَجْزَائِهِ لِضَرُورَةِ تَفْوِيتِهِ وَلَا يَتَأَتَّى تَفْوِيتُهُ إلَّا بِتَفْوِيتِ أَجْزَائِهِ فَإِنَّ أَجْزَاءَ الشَّيْءِ لَا تَكُونُ أَجْزَاءً لَهُ حَقِيقَةً إلَّا بِتَقْدِيرِ اجْتِمَاعِهَا وَأَمَّا قَبْلَ اجْتِمَاعِهَا فَلَيْسَتْ بِأَجْزَاءٍ لَهُ حَقِيقَةً بَلْ بِضَرْبٍ مِنْ الْمَجَازِ وَهُوَ أَنَّهَا صَالِحَةٌ لَأَنْ تَكُونَ أَجْزَاءً لَهُ إذَا اجْتَمَعَتْ اهـ.
فَافْهَمْ قَالَ الْأَصْلُ وَأَحْسَنُ مَا رَأَيْت لِلْأَصْحَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْحِنْثِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute