للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ ذَكَاةِ الْحَيَّاتِ وَقَاعِدَةِ ذَكَاةِ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ)

قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْحَيَّاتِ إذَا ذُكِّيَتْ فِي مَوْضِعِ ذَكَاتِهَا جَازَ أَكْلُهَا لِمَنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَأَشَارَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ أَنَّهَا تُذَكَّى كَمَا يُذَكَّى الصَّيْدُ وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ إنَّهَا لِأَجْلِ الْعَجْزِ عَنْهَا إذَا جُرِحَتْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهَا جَازَ تَنَاوُلُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَهُوَ سَبَبٌ لِهَلَاكِ مُتَنَاوِلِهَا وَلَمْ يُطْلِقْ مَالِكٌ هَذَا الْإِطْلَاقَ بَلْ قَالَ إذَا ذُكِّيَتْ فِي مَوْضِعِ ذَكَاتِهَا وَلَمْ يَقُلْ إذَا ذُكِّيَتْ مِثْلَ الصَّيْدِ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ ذَكَاةَ الْحَيَّاتِ لَا يَحْكُمُهَا إلَّا طَبِيبٌ مَاهِرٌ وَصِفَةُ ذَكَاتِهَا عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْأَطِبَّاءِ إذَا أَرَادُوا اسْتِعْمَالَهَا فِي التِّرْيَاقِ الْفَارُوقِ أَوْ لِمُدَاوَاةِ الْجُذَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنْ تُمْسَكَ بِرَأْسِهَا وَذَنَبِهَا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهَا غَيْظٌ فَيَدُورَ السُّمُّ فِي جَسَدِهَا فَإِذَا أُخِذَتْ.

كَذَلِكَ ثُنِّيَتْ عَلَى مِسْمَارٍ مَضْرُوبٍ فِي لَوْحٍ ثُمَّ تُضْرَبُ بِآلَةٍ حَادَّةٍ كَالْقُدُومِ الْحَادِّ مِثْلَ الْمُوسَى وَنَحْوِهَا مِنْ الْآلَاتِ الْحَادَّةِ الرَّزِينَةِ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ عَلَى تِلْكَ الْخَشَبَةِ وَيَقْصِدُ بِتِلْكَ الضَّرْبَةِ آخَرَ الرَّقَبَةِ مِنْ جِهَةِ رَقَبَتِهَا وَذَنَبِهَا فَإِنَّ بَيْنَ رَأْسِهَا وَوَسَطِهَا مِقْدَارٌ رَقِيقٌ وَبَيْنَ ذَنَبِهَا وَوَسَطِهَا مِقْدَارٌ رَقِيقٌ فَيَتَجَاوَزُ ذَلِكَ الرَّقِيقَ مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَيُوصَلُ الْمِقْدَارُ الْغَلِيظُ الَّذِي فِي وَسَطِهَا فَلَا يَتْرُكُ غَيْرَهُ وَيُحَازُ الرَّقِيقَانِ إلَى جِهَةِ الرَّأْسِ وَالذَّنَبِ وَيَقْطَعُ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَجِيزَةٍ فَمَتَى بَقِيَتْ جِلْدَةٌ يَسِيرَةٌ لَمْ تُقْطَعْ مَعَ الْجُمْلَةِ قَتَلَتْ آكِلَهَا لِأَنَّ السُّمَّ حِينَئِذٍ يَجْرِي مِنْ جِهَةِ الرَّأْسِ وَالذَّنَبِ فِي تِلْكَ الْجِلْدَةِ الْيَسِيرَةِ إلَى بَقِيَّةِ جَسَدِهَا الَّذِي هُوَ الْجُزْءُ الْغَلِيظُ بِسَبَبِ مَا يَحْدُثُ لَهَا مِنْ الْغَضَبِ عِنْدَ الْإِحْسَاسِ بِأَلَمٍ الْحَدِيدِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَوْضِعُ ذَكَاتِهَا فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَكَاتِهَا وَذَكَاةِ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ فَهَذَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ صِفَةِ الذَّكَاةِ وَفِيهَا فَرْقٌ آخَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الذَّكَاةَ شُرِعَتْ فِيهَا لِأَجْلِ السَّلَامَةِ مِنْ سُمِّهَا وَلَا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنْهَا دَمٌ عِنْدَ ذَكَاتِهَا أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ السَّلَامَةُ مِنْ سُمِّ رَأْسِهَا وَذَنَبِهَا وَلِذَلِكَ تُذَكَّى مِنْ وَسَطِهَا وَشُرِعَتْ الذَّكَاةُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ لِاسْتِخْرَاجِ الْفَضَلَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ أَجْسَادِهَا بِأَسْهَلَ الطُّرُقِ عَلَى الْحَيَوَانِ وَلَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْقَيْدِ الْأَخِيرِ فَإِنَّا لَوْ وَسَّطْنَا الْحَيَوَانَ أَوْ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ خَرَجَتْ مِنْهُ الْفَضَلَاتُ لَكِنَّ ذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى الْحَيَوَانِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ مَا يَخْرُجُ فَاخْتَارَ الشَّرْعُ قَطْعَ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومِ لِتَخْرُجَ الْفَضَلَاتُ وَهِيَ الدِّمَاءُ وَالْأَخْلَاطُ كُلُّهَا مِنْ الْأَوْدَاجِ وَقَطْعُهَا خَفِيفٌ عَلَى الْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّوَسُّطِ لَوْ ضَرَبَ الْعُنُقَ وَقَطْعُ الْحُلْقُومِ يُوجِبُ قَطْعَ النَّفْسِ لِأَنَّهُ مَجْرَاهُ فَيَخْتَنِقُ الْحَيَوَانُ فَيُسْرِعُ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْبِرِّ طَرِيقَةُ الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ وَضَابِطُهَا أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ يُسَاعِدُهُ الدَّلِيلُ فِي بَعْضِ صُوَرِ النِّزَاعِ دُونَ بَعْضِهَا فَيَفْرِضُ الِاسْتِدْلَالَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي يُسَاعِدُهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا.

فَإِذَا تَمَّ لَهُ فِيهَا الدَّلِيلُ بَنَى الْبَاقِيَ مِنْ الصُّوَرِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْحَاجِبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ يَقُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ الْمَعْطُوفَاتُ نَحْوُ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَعَمْرًا، وَالْجُمُوعُ وَالْمُثَنَّيَاتُ نَحْوُ لَا أَكَلْت الْأَرْغِفَةَ أَوْ الرَّغِيفَيْنِ، وَأَسْمَاءُ الْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُفْرَدَةِ كَالرَّغِيفِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْخِلَافُ فِيهَا وَاحِدٌ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْجَمِيعِ وَعِنْدَنَا بِالْبَعْضِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ فَنَقُولُ أَجْمَعنَا عَلَى مَا إذَا قَالَ الْحَالِفُ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَلَا عَمْرًا بِصِيغَةِ لَا النَّافِيَةِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَحَدِهِمَا وَاتَّفَقَ النُّحَاةُ عَلَى أَنْ لَا إذَا أُعِيدَتْ فِي الْعَطْفِ أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّفْيِ لَا مُنْشِئَةٌ نَفْيًا وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ - وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ - وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر: ١٩ - ٢١] فَذَكَرَ لَا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ مَنْفِيٌّ فَحَيْثُ تُرِكَتْ لَا كَانَ مَعْنَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُرِكَتْ فِيهِ مُسَاوِيًا لِمَعْنَى الْمَوْضِعِ الَّذِي ذُكِرَتْ فِيهِ غَيْرَ التَّوْكِيدِ وَشَأْنُ التَّوْكِيدِ أَنْ تَكُونَ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ مَعَهُ ثَابِتَةً قَبْلَهُ وَإِلَّا كَانَ مُنْشِئًا لَا مُؤَكِّدًا وَلَمَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ التَّحْنِيثُ مَعَ لَا الْمُؤَكِّدَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَبْلَ التَّحْنِيثِ تَحْقِيقًا لِحَقِيقَةِ التَّأْكِيدِ.

وَإِذَا اتَّضَحَ الْحِنْثُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِمُدْرَكٍ صَحِيحٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ الْحِنْثُ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ إذْ لَوْ ثَبَتَ الْحِنْثُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَزِمَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ قَائِلٌ بِالْحِنْثِ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَتْبَاعُهُ وَقَائِلٌ بِعَدَمِ الْحِنْثِ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَصْحَابُهُ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَحْنَثُ فِي صُورَةِ الْعَطْفِ دُونَ غَيْرِهَا كَانَ قَوْلًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ قَالَ الْأَصْلُ وَلَكِنَّ طَرِيقَةَ الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ ضَعِيفَةٌ لَا تَتِمُّ إلَّا فِي الْمُنَاظَرَةِ جَدَلًا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْمَذَاهِبِ أَمَّا وَالْمُجْتَهِدُ يَجْتَهِدُ فَلَا يَصِحُّ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا انْبَنَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ مِنْ قَوْلِ الْمَنَاظِرِ الْآنَ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>