للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ اللُّغَةِ عَلَى الشَّرَائِعِ وَهَاهُنَا قَاعِدَةٌ يُشْكِلُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ بِاعْتِبَارِهَا وَهُوَ أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ شَرَّعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ لَا يُشَرِّعُهُ عِنْدَ عَدَمِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ كَمَا شَرَّعَ التَّعْزِيرَاتِ وَالْحُدُودَ لِلزَّجْرِ وَلَمْ يُشَرِّعْهَا فِي حَقِّ الْمَجَانِينِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُمْ حَالَةَ التَّكْلِيفِ لِعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِمَقَادِير انْخِرَاقِ الْحُرْمَةِ وَالذِّمَّةِ وَالْمَهَانَةِ فِي حَالَةِ الْغَفْلَةِ فَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ وَشَرَّعَ الْبَيْعَ لِلِاخْتِصَاصِ بِالْمَنَافِعِ فِي الْغَرَضَيْنِ وَلَمْ يُشَرِّعْهُ فِيمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا فِيمَا كَثُرَ غَرَرُهُ أَوْ جَهَالَتُهُ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الِانْتِفَاعِ مَعَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ الْمُخِلَّيْنِ بِالْأَرْبَاحِ وَحُصُولِ الْأَعْيَانِ وَشَرَّعَ اللِّعَانَ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَلَمْ يُشَرِّعْهُ لِلْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ لِانْتِفَاءِ النَّسَبِ بِغَيْرِ لِعَانٍ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَضَابِطُهُ أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ لَا يُشَرَّعُ وَالنِّكَاحُ سَبَبٌ شُرِّعَ لِلتَّنَاسُلِ وَالْمُكَارَمَةِ وَالْمَوَدَّةِ فَمَنْ قَالَ بِشَرْعِيَّتِهِ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ قَبْلَ الْمِلْكِ فَقَدْ الْتَزَمَ شَرْعِيَّتَهُ مَعَ انْتِفَاءِ حِكْمَتِهِ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ عَلَيْهَا الْعَقْدُ أَلْبَتَّةَ لَكِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ إجْمَاعًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ تَحْصِيلًا لِحِكْمَةِ الْعَقْدِ.

وَأَمَّا وُجُوبُ نِصْفِ الصَّدَاقِ وَتَبْعِيضُ الطَّلَاقِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ فَأُمُورٌ تَابِعَةٌ لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ لَا أَنَّهَا مَقْصُودُ الْعَقْدِ فَلَا يُشَرَّعُ الْعَقْدُ لِأَجْلِهَا فَحَيْثُ أَجْمَعْنَا عَلَى شَرْعِيَّتِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ حِكْمَتِهِ وَهُوَ بَقَاءُ النِّكَاحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَقَاصِدِهِ، وَهَذَا مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ عَلَى أَصْحَابِنَا فَتَأَمَّلْهُ، وَقَدْ ظَهَرَ لَك أَيْضًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَحْثِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَتَرَتَّبُ فِي الذِّمَمِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا أَذِنَ لَهَا يَجُوزُ عَقْدُهَا وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَقْدَهَا عَلَى نَفْسِهَا إذَا صَحَّ مَعَ الْإِذْنِ صَحَّ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ

(وَالْجَوَابُ) عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الدَّلِيلَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَدْ دَلَّ عَلَى مُخَالَفَةِ ذَلِكَ الْأَصْلِ أَمَّا مِنْ الْكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: ٣٢] فَخَاطَبَ الْأَوْلِيَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ لَتَعَذَّرَ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلْأَوْلِيَاءِ بِيعُوا أَمْوَالَ النِّسَاءِ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْأَمْوَالِ لَهُنَّ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ خِلَافُ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ قَالَ أَنْكِحُوا بِالْهَمْزَةِ وَلَوْ أَرَادَ الْأَزْوَاجَ لَقَالَ ذَلِكَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَكَانَتْ الْأَلْفُ لِلْوَصْلِ وَإِنْ كَانَ بِالْهَمْزِ فِي الْأَزْوَاجِ لَهُ وَجْهٌ فَالظَّاهِرُ أَوْلَى فَلَا يُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. اهـ

قَوْله تَعَالَى {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: ٢٢١] قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ قَرَأَ {وَلا تَنْكِحُوا} [البقرة: ٢٢١] إلَخْ بِضَمِّ التَّاءِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ وَدَلَالَةٌ صَحِيحَةٌ اهـ وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ كَوْنَهُ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ أَظْهَرُ مِنْ كَوْنِهِ خِطَابًا لِأُولِي الْأَمْرِ لِوَجْهَيْنِ

(الْأَوَّلُ) أَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَوْلِيَاءِ إذْ السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ

(الثَّانِي) أَنَّ الضَّرَرَ بِزَوَاجِ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ إنَّمَا يَتَعَدَّى بِالْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ الشَّنْعَاءِ لِلْأَوْلِيَاءِ لَا وَلِيِّ الْأَمْرِ مِنْهُمْ فَهُمْ أَحَقُّ بِخِطَابِ الْإِرْشَادِ مِنْهُ فَافْهَمْ وقَوْله تَعَالَى {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: ٢٣٢] لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ نَهْيِ قَرَابَةِ الْمَرْأَةِ وَعَصَبَتِهَا مِنْ أَنْ يَمْنَعُوهَا النِّكَاحَ إلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِيَ أَنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي مَنْعِهَا مِنْ النِّكَاحِ عَلَى غَيْرِ الْأَكْفَاءِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِنَهْيِهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى وَثُبُوتُ حَقٍّ لَهُمْ فِي الْمَنْعِ الْمَذْكُورِ يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاطَ إذْنِهِمْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَأَمَّا مِنْ السُّنَّةِ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا» خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

٢ -

(وَعَنْ الْوَجْهِ الثَّانِي) بِأَنَّ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِبْضَاعِ وَقَاعِدَةِ الْأَمْوَالِ ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ

(الْفَرْقُ الْأَوَّلُ) أَنَّ الْإِبْضَاعَ أَشَدُّ خَطَرًا وَأَعْظَمُ قَدْرًا فَنَاسَبَ أَنْ لَا تُفَوَّضَ إلَّا لِكَامِلِ الْعَقْلِ يَنْظُرُ فِي مَصَالِحِهَا وَالْأَمْوَالُ لَمَّا كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا خَسِيسَةً جَازَ أَنْ نُفَوِّضَ لِمَالِكِهَا إذْ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ فِي الْمَالِ إلَى مَالِكُهُ

(وَالْفَرْقُ الثَّانِي) أَنَّ الْإِبْضَاعَ يَعْرِضُ لَهَا تَنْفِيذُ الْأَغْرَاضِ فِي تَحْصِيلِ الشَّهَوَاتِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي يُبْذَلُ لِأَجْلِهَا عَظِيمُ الْمَالِ فَيُغَطِّي مِثْلُ هَذَا الْهَوَى عَلَى عَقْلِ الْمَرْأَةِ لِضَعْفِهِ وُجُوهَ الْمَصَالِحِ فَتُلْقِي نَفْسَهَا لِأَجْلِ هَوَاهَا فِيمَا يُرْدِيهَا فِي دُنْيَاهَا وَأُخْرَاهَا فَحُجِرَ عَلَيْهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِاحْتِمَالِ تَوَقُّعِ مِثْلِ هَذَا الْهَوَى الْمُفِيدِ وَلَا يَحْصُلُ فِي الْمَالِ مِثْلُ ذَلِكَ

(الْفَرْقُ الثَّالِثُ) أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إذَا حَصَلَتْ فِي الْإِبْضَاعِ بِسَبَبِ زَوَاجِ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ وَحَصَلَ الضَّرَرُ لِلْمَرْأَةِ تَعَدَّى مِنْهَا لِلْأَوْلِيَاءِ بِالْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ الشَّنْعَاءِ وَإِذَا حَصَلَ الْفَسَادُ فِي الْأَمْوَالِ وَحَصَلَ الضَّرَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا يَكَادُ يَتَعَدَّاهَا وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ الْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ مَا فِي الْإِبْضَاعِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا مِنْ الْأَرَاذِلِ الْأَخِسَّاءِ فَهَذِهِ فُرُوقٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ فَمِنْ هُنَا لَمَّا سُئِلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَنْ الْمَرْأَةِ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا قَالَ فِي الْجَوَابِ الْمَرْأَةُ مَحَلُّ الزَّلَلِ، وَالْعَارُ إذَا وَقَعَ لَمْ يَزُلْ، وَعَنْ

(الْوَجْهِ الثَّالِثِ) بِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: ٢٣] إلَخْ النَّهْيُ عَنْ التَّثْرِيبِ عَلَيْهِنَّ فِيمَا اسْتَبْدَدْنَ بِفِعْلِهِ دُونَ أَوْلِيَائِهِنَّ وَلَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَبِدَّ بِهِ الْمَرْأَةُ دُونَ الْوَلِيِّ إلَّا عَقْدُ النِّكَاحِ فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ لَهَا أَنْ تَعْقِدَ النِّكَاحَ وَلِلْأَوْلِيَاءِ الْفَسْخَ إذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الشَّرْعِ فَالِاحْتِجَاجُ بِهَا عَلَى أَنَّ لَهَا الْعَقْدَ وَلَيْسَ لِأَوْلِيَائِهَا فَسْخُهُ مُطْلَقًا احْتِجَاجٌ بِبَعْضِ ظَاهِرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>