للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعَدَاوَةُ مُطْلَقًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَوَسِّطَاتِ لَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ» احْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: ٢٨٢] وَبِقَوْلِهِ {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: ٢] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الظَّوَاهِرِ وَالْفِقْهِ مَعَ مَنْ كَانَتْ الْقَوَاعِدُ وَالنُّصُوصُ مَعَهُ أَظْهَرُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ أَوْ كُفْرِهِ أَوْ صِغَرِهِ أَوْ رَقِّهِ ثُمَّ أَدَّاهَا بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ يُتَّهَمُ فِي تَنْفِيذِ مَا رُدَّ فِيهِ مَنَعْنَاهَا نَحْنُ وَابْنُ حَنْبَلٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُقْبَلُ الْكُلَّ إلَّا الْفَاسِقَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْفَاسِقَ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي عَدَالَتِهِ فَيَتَحَقَّقُ الرَّدُّ بِالظُّهُورِ عَلَى الْفِسْقِ، وَأُولَئِكَ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ لِمَا عُلِمَ مِنْ صِفَاتِهِمْ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرَّدُّ الْبَاعِثُ عَلَى التُّهْمَةِ، وَلَنَا شَهَادَةُ الْعَوَائِدِ، وَلِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِفَاتِهِمْ لَوْ وَقَعَ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَمَا وَقَعَ الْأَدَاءُ، وَإِنَّمَا مَنَعْنَا حَيْثُ وَقَعَ الْأَدَاءُ فَصِفَاتُهُمْ حِينَئِذٍ تَكُونُ مَجْهُولَةً فَسَقَطَ الْفَرْقُ، وَعَكْسُهُ لَوْ حَصَلَ الْبَحْثُ عَنْ الْفِسْقِ قَبْلَ الْأَدَاءِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إذَا لَمْ تُرَدَّ، وَصَلَحَتْ حَالُهُ، وَمَنَعْنَا شَهَادَةَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ إذَا قُصِدُوا فِي التَّحَمُّلِ دُونَ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الْعُدُولَ إلَيْهِمْ مَعَ إمْكَانِ غَيْرِهِمْ تُهْمَةٌ فِي إبْطَالِ مَا شَهِدُوا بِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ لَا يُقْبَلُ بَدْوِيٌّ مُطْلَقًا عَلَى قَرَوِيٍّ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ مُطْلَقًا، لَنَا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ، وَفِي أَبِي دَاوُد «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَدْوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى مَوْضِعِ التُّهْمَةِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَحَمَّلُوهُمْ الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ لَمْ تُعْلَمْ عَدَالَتُهُ مِنْ الْأَعْرَابِ قَالُوا وَهُوَ أَوْلَى لِقِلَّةِ التَّخْصِيصِ حِينَئِذٍ فِي تِلْكَ الْعُمُومَاتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا شَهِدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَقَبِلَ شَهَادَتَهُ عَلَى النَّاسِ» ، وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْجِرَاحِ قُبِلَتْ فِي غَيْرِهَا كَالْحَضَرِيِّ، وَلِأَنَّ الْجِرَاحَ آكَدُ مِنْ الْمَالِ فَفِي الْمَالِ أَوْلَى.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ جَمْعَنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِ عَدَمِ الْعَدَالَةِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ بِصَاحِبِ الْقَرْيَةِ فَائِدَةٌ بَلْ لِلتُّهْمَةِ، وَعَنْ الثَّانِي نَحْنُ نَقْبَلُهُ فِي الْهِلَالِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ الْجِرَاحَ يُقْصَدُ الْخِلْوَاتِ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ فَكَانَتْ التُّهْمَةُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَوْجُودَةً دُونَ الْجِرَاحِ.

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْحُرِّ وَالرَّقِيقِ لِأَجْلِ نَجَاةِ الْبَاقِينَ لَكِنْ بَعْدَ رَمْيِ الْأَمْوَالِ غَيْرِ الرَّقِيقِ، وَقَالَ الْمَحَلِّيُّ لَا يَجُوزُ رَمْيُ الْبَعْضِ بِالْقُرْعَةِ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ نَجَاةَ الْبَاقِينَ لَيْسَ كُلِّيًّا أَيْ مُتَعَلِّقًا بِكُلِّ الْأُمَّةِ اهـ.

وَفِي الْعَطَّارِ عَلَيْهِ ذَكَرَ الصَّلَاحُ الصَّفَدِيُّ أَنَّ مَرْكَبًا كَانَ فِي الْبَحْرِ وَفِيهِ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ فَأَشْرَفُوا عَلَى الْغَرَقِ، وَأَرَادُوا لِيَرْمُوا بَعْضَهُمْ إلَى الْبَحْرِ لِتَخِفَّ الْمَرْكَبُ، وَيَنْجُوَ الْبَاقِي فَقَالُوا نَقْتَرِعُ، وَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَيْنَاهُ فَقَالَ الرَّيِّسُ نَعُدُّ الْجَمَاعَةَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ تَاسِعًا فِي الْعَدَدِ أَلْقَيْنَاهُ فَارْتَضَوْا بِذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ يَعُدُّهُمْ، وَيُلْقِي التَّاسِعَ فَالتَّاسِعَ إلَى أَنْ أَلْقَى الْكُفَّارَ أَجْمَعِينَ، وَسَلِمَ الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ وَضَعَهُمْ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ بِأَنْ وَضَعَ أَرْبَعَةً مُسْلِمِينَ، وَخَمْسَةً كُفَّارًا ثُمَّ مُسْلِمَيْنِ ثُمَّ كَافِرًا إلَى آخِرِ ذَلِكَ، وَوَضَعَ لَهُمْ ضَابِطًا، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:

اللَّهُ يَقْضِي بِكُلِّ يُسْرٍ ... وَيَرْزُقُ الضَّعِيفَ حَيْثُ كَانَا

فَمُهْمَلُ الْحُرُوفِ لِلْمُسْلِمِينَ وَمُعْجَمُهَا لِلْكُفَّارِ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَالسَّيْرُ إلَى جِهَةِ الشِّمَالِ بِالْعَدَدِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَيْضًا قَبْلَ ذَلِكَ عَنْ اللُّغْزِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمُرْسَلِ فِي الشَّرْعِ لَا يُتَصَوَّرُ حَتَّى يُتَكَلَّمَ فِيهِ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ إذْ الْوَقَائِعُ لَا حَصْرَ لَهَا، وَكَذَا الْمَصَالِحُ، وَمَا مِنْ مَسْأَلَةٍ تَعْرِضُ إلَّا وَفِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا إمَّا بِالْقَبُولِ أَوْ بِالرَّدِّ فَإِنَّا نَعْتَقِدُ اسْتِحَالَةَ خُلُوِّ وَاقِعَةٍ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ.

وَقَدْ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِرَسُولِهِ، وَانْقَطَعَ الْوَحْيُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ الدِّينِ قَالَ تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣] وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَصَوُّرِهِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ تَنْقَسِمُ إلَى مَوَاقِعِ التَّعَبُّدَاتِ، وَالْمُتَّبَعُ فِيهَا النُّصُوصُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَمَا لَمْ تُرْشِدْ النُّصُوصُ إلَيْهِ فَلَا تَعَبُّدَ بِهِ.

وَإِلَى مَا لَيْسَ مِنْ التَّعَبُّدَاتِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ كَالْأَيْمَانِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالطَّلَاقِ؛ وَقَدْ أَحَالَهَا الشَّرْعُ فِي مُوجِبَاتِهَا إلَى قَضَايَا الْعُرْفِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَالِاكْتِفَاءِ بِالْعِثْكَالِ الَّذِي عَلَيْهِ مِائَةُ شُمْرُوخٍ إذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ مِائَةً لِمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمْ يُنْسَخْ فِي شَرْعِنَا، وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى مَا يَنْضَبِطُ فِي نَفْسِهِ كَالنَّجَاسَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ وَطُرُقِ تَلَقِّي الْمِلْكِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ مُنْضَبِطَةٌ، وَمُسْتَنَدَاتُهَا مَعْلُومَةٌ، وَإِلَى مَا لَا يَنْضَبِطُ إلَّا بِالضَّبْطِ فِي مُقَابِلِهِ كَالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ، وَالْأَفْعَالُ الْمُبَاحَةُ تَنْضَبِطُ بِضَبْطِ النَّجَاسَةِ وَالْحَظْرِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْلَاكُ مُنْتَشِرَةٌ تَنْضَبِطُ بِضَبْطِ طُرُقِ النَّقْلِ، وَالْإِيذَاءُ مُحَرَّمٌ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ مِنْ غَيْرِ ضَبْطٍ، وَيَنْضَبِطُ بِضَبْطِ مَا اسْتَثْنَى الشَّرْعُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَالْوَقَائِعُ إنْ وَقَعَتْ فِي جَانِبِ الضَّبْطِ أُلْحِقَتْ بِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>