للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَقْوَى حُجَّةً مِنْ جَحْدِهِ أَصْلَ الْحَقِّ، وَجَحْدُهُ لَا يُقْضَى بِهِ مَعَ الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً بِالشَّاهِدِ وَحْدَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَكَذَلِكَ النُّكُولُ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّعْظِيمَ لَا مَدْخَلَ لَهُ هَاهُنَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَبَّحَ، وَهَلَّلَ أَلْفَ مَرَّةٍ لَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الشَّاهِدِ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي إقْدَامِهِ عَلَى مُوجِبِ الْعُقُوبَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْكَذِبِ، وَهَذَا كَمَا هُوَ وَازِعٌ دِينِيٌّ فَالنُّكُولُ فِيهِ وَازِعٌ طَبِيعِيٌّ لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ إنْ حَلَفْت بَرِئْت، وَإِنْ نَكَلْت غَرِمْت فَإِذَا نَكَلَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ، وَالْوَازِعُ الطَّبِيعِيُّ أَقْوَى عِنْدَنَا إثَارَةً لِلظُّنُونِ مِنْ الْوَازِعِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِقْرَارَ يُقْبَلُ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ، وَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْ الْعَدْلِ لِأَنَّ وَازِعَهَا شَرْعِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي الْمُتَّقِينَ مِنْ النَّاسِ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ قَدْ تَكُونُ أَوْلَى مِنْ الْحَقِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ الْمُجْتَلَبِ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَتُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ لِأَنَّ الْوَازِعَ حِينَئِذٍ إنَّمَا هُوَ الْوَازِعُ الشَّرْعِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ دُونَ الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ، وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْجَحْدِ لَا يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ فَلَا يَخَافُهُ، وَالنُّكُولُ يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْيَمِينِ فَخَافَهُ طَبْعُهُ فَظَهَرَ أَنَّ النُّكُولَ أَقْوَى مِنْ الْيَمِينِ، وَأَقْوَى مِنْ الْجَحْدِ (الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ) الْمَرْأَتَانِ، وَالنُّكُولُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْمَدْرَكُ هُوَ مَا تَقَدَّمَ سُؤَالًا وَجَوَابًا، وَعُمْدَتُهُ أَنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى الْيَمِينِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.

(الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ) الْيَمِينُ وَالنُّكُولُ وَصُورَتُهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمَطْلُوبُ بِالْيَمِينِ الدَّافِعَةِ فَيَنْكُلُ فَيَحْلِفُ الطَّالِبُ، وَيَسْتَحِقُّ بِالنُّكُولِ وَالْيَمِينِ فَإِنْ جَهِلَ الْمَطْلُوبُ رَدَّهَا فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُعْلِمَهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَقْضِي حَتَّى يَرُدَّهَا فَإِنْ نَكَلَ الطَّالِبُ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَنْبَلٍ يَقْضِي بِالنُّكُولِ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الطَّالِبِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة إنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَالٍ كَرَّرَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَزِمَهُ الْحَقُّ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عَقْدٍ فَلَا يَحْكُمُ بِالنُّكُولِ بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَعْتَرِفَ، وَفِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالنَّسَبِ وَغَيْرِهِ لَا مَدْخَلَ لِلْيَمِينِ فِيهِ فَلَا نُكُولَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يُحْبَسُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ حَتَّى يَحْلِفَ لَنَا وُجُوهٌ:

(الْأَوَّلُ) قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ، وَلَا يَمِينَ بَعْدَ يَمِينٍ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي يَمِينًا بَعْدَ يَمِينٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ رَدِّ يَمِينٍ عَلَى حَذْفِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الشَّرْعِيَّةَ قِسْمَانِ: (الْأَوَّلُ) مَا يَقْبَلُ حُكْمَ الْحَاكِمِ مَعَ الْفَتْوَى فَيَجْتَمِعُ الْحُكْمَانِ (وَالثَّانِي) مَا لَا يَقْبَلُ إلَّا الْفَتْوَى، وَيَظْهَرُ لَك بِهَذَا أَيْضًا تَصَرُّفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا وَقَعَ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْفَتْوَى أَوْ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ وَالْإِنْشَاءِ، وَأَيْضًا يَظْهَرُ أَنَّ إخْبَارَ الْحَاكِمِ عَنْ نِصَابٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فَتْوَى، وَأَمَّا أَخْذُهُ لِلزَّكَاةِ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ فَحُكْمٌ وَفَتْوَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَنَازُعٌ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ فِي الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ السُّعَاةِ وَالْجُبَاةِ فِي الزَّكَاةِ أَحْكَامٌ لَا نَنْقُضُهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْفَتْوَى عِنْدَنَا عَلَى خِلَافِهَا اهـ.

وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا الضَّابِطُ الْعَلَّامَةُ التَّسَوُّلِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْقُيُودَ ثَلَاثَةً مُسْتَغْنِيًا عَنْ قَيْدِ الْإِنْشَاءِ بِقَيْدٍ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ لِاتِّحَادِ الْمَخْرَجِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا تُرْشِدُ لِذَلِكَ عِبَارَةُ الْأَصْلِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِبَارَةُ التَّسَوُّلِيِّ فِي الْفَرْقِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا فَلَا تَغْفُلْ، وَخَالَفَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ أَوَّلًا فِي كَوْنِ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ مُطْلَقًا كَانَتْ مِنْ مَوَاطِنِ الْخِلَافِ أَوْ الْإِجْمَاعِ فَقَالَ إنَّ دُخُولَ الْحُكْمِ فِي النِّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ بِالصِّحَّةِ، وَالْمُوجِبُ اسْتِقْلَالٌ وَاضِحٌ، وَكَذَا سَائِرُ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْقِرَاضِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاتِ وَالْقِسْمَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالْحَبْسِ وَالْوَكَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْحَمَالَةِ وَالضَّمَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْمُعَاوَضَاتِ كُلِّهَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ، وَبِالْمُوجِبِ فَلَا نُطَوِّلُ بِالتَّمْثِيلِ، وَمِنْهَا الصَّيْدُ فَإِذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي صَيْدٍ، وَتَرَافَعَا إلَى الْحَاكِمِ، وَتَصَادَقَا عَلَى فِعْلَيْنِ صَدَرَا مِنْهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ مَثَلًا أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ لِلْأَوَّلِ أَوْ لِلثَّانِي فَحَكَمَ لَهُ بِأَنَّهُ الْمَالِكُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مُسْتَقِلًّا صَحِيحًا، وَثَابِتًا فِي الْعِبَادَاتِ، فَقَسَمَهَا بِاعْتِبَارِ دُخُولِ الْحُكْمِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

(الْأَوَّلُ) مَا يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا، وَهُوَ الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ قَالَ أَمَّا الزَّكَاةُ فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ يَرَى جَوَازَ إخْرَاجِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ بِصِحَّةِ الْإِخْرَاجِ أَوْ بِمُوجِبِهِ عِنْدَهُ، وَهُوَ سُقُوطُ الْفَرْضِ بِذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ، وَالْمُوجِبُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، وَلَيْسَ لِلسَّاعِي إذَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَالِكَ بِإِخْرَاجِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ حَكَمَ بِالصِّحَّةِ أَوْ حَكَمَ بِالْمُوجِبِ.

وَأَمَّا الصَّوْمُ فَيَدْخُلُهُ أَيْضًا، وَذَلِكَ إذَا صَامَ الْوَلِيُّ الْوَارِثُ عَنْ الْمَيِّتِ، وَطَلَبَ الْوَصِيُّ أَنْ يُخْرَجَ الطَّعَامُ فَامْتَنَعَ الْوَارِثُ مِنْهُ، وَتَرَافَعَا إلَى حَاكِمٍ يَرَى صِحَّةَ الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ فَحَكَمَ بِصِحَّتِهِ أَوْ بِمُوجِبِهِ فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ حِينَئِذٍ، وَلَا أَنْ يُطَالِبَ الْوَارِثَ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْحُكْمِ.

٢ -

<<  <  ج: ص:  >  >>