للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي صَدْرِ السُّورَةِ حِكَايَةً عَنْ الْكُفَّارِ {هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء: ٣] فَبَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ لِيُبَيِّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ بِدُعَاءٍ مِنْ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ يُفَضِّلُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ حُكْمِهِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ غَفْلَةً بَلْ عَنْ عِلْمٍ وَلِذَلِكَ فَهْمُ سُلَيْمَانَ دُونَ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ عَنْ غَفْلَةٍ بَلْ نَحْنُ عَالِمُونَ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى ضَبْطِ التَّصَرُّفِ، وَإِحْكَامِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ الْعَظِيمُ أَعْرَضْتُ عَنْ زَيْدٍ، وَأَنَا عَالِمٌ بِحُضُورِهِ، وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ التَّمَدُّحَ بِالْعِلْمِ بَلْ بِإِحْكَامِ التَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.

(الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا خَرَجَ عَنْ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا بَقِيَ عَلَى الْمُسَاوَاةِ) . اعْلَمْ أَنَّ الْقِصَاصَ أَصْلُهُ مِنْ الْقَصِّ الَّذِي هُوَ الْمُسَاوَاةُ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَّ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ بَقِيَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ شَرْطٌ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى تَعْطِيلِ الْقِصَاصِ قَطْعًا أَوْ غَالِبًا، وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا التَّسَاوِي فِي أَجْزَاءِ الْأَعْضَاءِ وَسُمْكِ اللَّحْمِ فِي الْجَانِي لَوْ اُشْتُرِطَ لَمَا حَصَلَ إلَّا نَادِرًا بِخِلَافِ الْجِرَاحَاتِ فِي الْجَسَدِ وَثَانِيهِمَا التَّسَاوِي فِي مَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ وَثَالِثُهَا الْعُقُولُ وَرَابِعُهَا الْحَوَاسُّ وَخَامِسُهَا قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَقَطْعُ الْأَيْدِي بِالْيَدِ لَوْ اُشْتُرِطَتْ الْوَاحِدَةُ لِتَسَاوِي الْأَعْدَادِ بِبَعْضِهِمْ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ، السَّادِسُ الْحَيَاةُ الْيَسِيرَةُ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ مَعَ الشَّابِّ، وَمَنْفُوذُ الْمَقَاتِلِ عَلَى الْخِلَافِ، السَّابِعُ تَفَاوُتُ الصَّنَائِعِ وَالْمَهَارَةِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَصْنَعُ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا يَأْمُرُهَا بِهِ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ اعْتَقَدَ السَّاحِرُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَخَّرَ لَهُ الشَّيَاطِينَ بِسَبَبِ عَقَاقِيرِهِ مَعَ خَوَاصِّ نَفْسِهِ ضَعُفَ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْحَابِ إنَّهُ عَلَامَةُ الْكُفْرِ فَمُشْكِلٌ؛ لِأَنَّا نَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِاعْتِبَارِ الْفُتْيَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ حَالَ الْإِنْسَانِ فِي تَصْدِيقِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ بَعْدَ عَمَلِ هَذِهِ الْعَقَاقِيرِ كَحَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَالشَّرْعُ لَا يُخْبِرُ عَلَى خِلَافِ الْوَاقِعِ، وَإِنْ أَرَادُوا الْخَاتِمَةَ فَمُشْكِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّا لَا نُكَفِّرُ فِي الْحَالِ بِكُفْرٍ وَاقِعٍ فِي الْمَآلِ كَمَا أَنَّا لَا نَجْعَلُ مَنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ الْآنَ مُؤْمِنًا فِي الْحَالِ بِإِيمَانٍ وَاقِعٍ فِي الْمَآلِ بَلْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَتْبَعُ أَسْبَابَهَا وَتَحَقُّقَهَا لَا تَوَقُّعَهَا وَإِنْ قَطَعْنَا بِوُقُوعِهَا كَمَا أَنَّا نَقْطَعُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَلَا تَتَرَتَّبُ مُسَبَّبَاتُهَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي التَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ، وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا قَضَيْنَا بِكُفْرِهِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الْفُتْيَا، وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مُؤْمِنًا، وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ تَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ كُفْرٌ فَفِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ فَقَدْ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ إذَا وَقَفَ لِبُرْجِ الْأَسَدِ، وَحَكَى الْقَضِيَّةَ إلَى آخِرِهَا فَإِنَّ هَذَا سِحْرٌ فَقَدْ تَصَوَّرَهُ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ فَهَذَا هُوَ تَعَلُّمُهُ فَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَلُّمُ إلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ كَضَرْبِ الْعُودِ بَلْ كُتُبُ السِّحْرِ مَمْلُوءَةٌ مِنْ تَعْلِيمِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ كَتَعَلُّمِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَكْفُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ كَمَا تَقُولُ إنَّ النَّصَارَى يَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا وَالصَّابِئَةَ مُعْتَقِدُونَ فِي النُّجُومِ كَذَا وَنَتَعَلَّمُ مَذَاهِبَهُمْ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ حَتَّى نَرُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَهُوَ قُرْبَةٌ لَا كُفْرٌ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنْ كَانَ تَعَلَّمَ السِّحْرَ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَكَذَلِكَ نَقُولُ إذَا عَمِلَ السَّحَرُ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ لِيُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى الزِّنَا أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ بِالْبَغْضَاءِ وَالشَّحْنَاءِ أَوْ لِيَقْتُلَ جَيْشُ الْكُفْرِ مَلِكَهُمْ بِهِ أَوْ لِيُوقِعَ بِهِ الْمَحَبَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بَيْنَ جَيْشِ الْإِسْلَامِ، وَمَلِكِهِمْ فَهَذَا كُلُّهُ قُرْبَةٌ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ كُلَّهَا فَالْمَوْضِعُ مُشْكِلٌ جِدًّا.

وَأَمَّا قَوْلُ الطُّرْطُوشِيِّ إذَا قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَهُوَ كَافِرٌ قَضَيْنَا بِكُفْرِهِ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ فَهُوَ فَرْضٌ مُحَالٌ إذْ لَا يُخْبِرُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَنْ إنْسَانٍ بِالْكُفْرِ إلَّا إذَا كَفَرَ وَقَوْلُهُمْ هُوَ دَلِيلُ الْكُفْرِ مَمْنُوعٌ وَقَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُسَلَّمٌ إذْ لَا مُحَالَ فِي حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ كُفْرٌ إنَّمَا الْمُحَالُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَدْخُلُ التَّخْصِيصُ فِي عُمُومِهَا بِالْقَوَاعِدِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْعُمُومَاتِ، وَهُوَ مَا نَقُولُ أَوْ لَا يَدْخُلُ كَمَا يَقُولُونَ فَيَلْزَمُ التَّكْفِيرُ بِغَيْرِ سَبَبِ الْكُفْرِ وَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ وَلَا شَاهِدَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ أَوْ تَعَلُّمَهُ لَا يَكُونُ بِالْكُفْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: ١٠٢] خَبَرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: ١٠٢] تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ {كَفَرُوا} [البقرة: ١٠٢] وَنَحْنُ نَمْنَعُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ بَعْدَ تَقَرُّرِ كُفْرِهِمْ بِغَيْرِ السِّحْرِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ لَكِنْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السِّحْرَ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْكُفْرِ، وَكَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَعْتَقِدُ مُوجِبَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ كَالنَّصْرَانِيِّ إذَا عَلَّمَ الْمُسْلِمَ دِينَهُ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ مُوجِبَهُ، وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ إذَا عَلَّمَ تِلْمِيذَهُ الْمُسْلِمَ دِينَ النَّصْرَانِيِّ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ وَيَتَأَمَّلَ فَسَادَ قَوَاعِدِهِ فَلَا يَكْفُرُ الْمُعَلِّمُ، وَلَا الْمُتَعَلِّمُ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ، وَأَمَّا جَعْلُ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ مُطْلَقًا كُفْرًا فَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى غَوْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>