مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَسَنُ دُونَ الْكِبْرِ
(الْفَرْقُ السِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكِبْرِ وَقَاعِدَةِ الْعُجْبِ) قَدْ تَقَدَّمَتْ حَقِيقَةُ الْكِبْرِ، وَأَنَّهُ فِي الْقَلْبِ وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: ٥٦] فَجَعَلَ مَحَلَّهُ الْقَلْبَ وَالصُّدُورَ وَأَمَّا الْعُجْبُ فَهُوَ رُؤْيَةُ الْعِبَادَةِ، وَاسْتِعْظَامُهَا مِنْ الْعَبْدِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ تَكُونُ بَعْدَ الْعِبَادَةِ وَمُتَعَلِّقَةً بِهَا هَذَا التَّعَلُّقَ الْخَاصَّ كَمَا يَتَعَجَّبُ الْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ، وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ، وَكُلُّ مُطِيعٍ بِطَاعَتِهِ هَذَا حَرَامٌ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلطَّاعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَهَا بِخِلَافِ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ يَقَعُ مَعَهَا فَيُفْسِدَهَا، وَسِرُّ تَحْرِيمِ الْعُجْبِ أَنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعْظِمَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى سَيِّدِهِ بَلْ يَسْتَصْغِرُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَظَمَةِ سَيِّدِهِ لَا سِيَّمَا عَظَمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: ٩١] أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ فَمَنْ أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ وَعِبَادَتِهِ فَقَدْ هَلَكَ مَعَ رَبِّهِ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَخَطِهِ وَنَبَّهَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: ٦٠] مَعْنَاهُ يَفْعَلُونَ مِنْ الطَّاعَاتِ مَا يَفْعَلُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِتِلْكَ الطَّاعَةِ احْتِقَارًا لَهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهَا فَالْكِبْرُ رَاجِعٌ لِلْخَلْقِ وَالْعِبَادِ، وَالْعَجَبُ رَاجِعٌ لِلْعِبَادَةِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قَالَ: وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي تَوْجِيهِ طَرِيقَةِ اتِّحَادِ حُكْمِ الْبِدَعِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ عَالِمًا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً وَيُقِرُّ بِالْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ بَحْتًا أَمَّا فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا، وَشَأْنُ كُلِّ مَنْ حَكَمْنَا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يُقِرَّ بِالْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ بَحْتًا بَلْ يَكُونُ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّ مَا عَمِلَهُ بِدْعَةٌ؛ إذْ لَا يَرْضَى مُنْتَمٍ إلَى الْإِسْلَامِ بِإِبْدَاءِ صَفْحَةِ الْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مُصَادِمٌ لِلشَّارِعِ مُرَاغِمٌ لِلشَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ وَالتَّحْرِيفِ لَهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَفِي اسْتِنْبَاطِهَا وَتَشْرِيعِهَا كَقَوْلِهِ: هِيَ بِدْعَةٌ، وَلَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ وَكَفِعْلِهِ لَهَا مُقِرًّا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً لِأَجْلِ حَظٍّ عَاجِلٍ كَفَاعِلِ الذَّنْبِ لِقَضَاءِ حَظِّهِ الْعَاجِلِ خَوْفًا عَلَى حَظِّهِ أَوْ فِرَارًا مِنْ خَوْفٍ عَلَى حَظِّهِ أَوْ فِرَارًا مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ الْيَوْمَ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ يُشَارُ إلَيْهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا فَفِي تَقْلِيدِهِ كَقَوْلِهِ: إنَّهَا بِدْعَةٌ، وَلَكِنَّنِي رَأَيْت فُلَانًا الْفَاضِلَ يَعْمَلُ بِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ مَالِكٍ: مَنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَانَ الرِّسَالَةَ وَقَوْلُهُ: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمَدِينَةِ أَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّك سَبَقْت إلَى فَضِيلَةٍ قَصَرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ أَنَّهَا إلْزَامٌ لِلْخَصْمِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ النَّظَرِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَلْزَمُك فِي هَذَا الْقَوْلِ كَذَا لَا أَنَّهُ يَقُولُ: قَصَدْت إلَيْهِ قَصْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ إلَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِيهِ هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَمْ لَا إلَّا أَنَّ شُيُوخَنَا الْبَجَائِيِّينَ وَالْمَغْرِبِيِّينَ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، وَيُرْوَى أَنَّهُ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ أَيْضًا؛ فَلِذَلِكَ إذَا قُرِّرَ عَلَى الْخَصْمِ أَنْكَرَهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ فَاعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَلَى التَّحْقِيقِ لَا يَنْهَضُ إذًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَسْتَوِي الْبِدْعَةُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ.
٢ -
فَكَمَا تَنْقَسِمُ الْمَعْصِيَةُ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ كَذَلِكَ تَنْقَسِمُ الْبِدَعُ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ نَعَمْ لَا تَكُونُ الْبِدْعَةُ صَغِيرَةً إلَّا بِشُرُوطٍ
(أَحَدُهَا) : أَنْ لَا يُدَاوِمَ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ الصَّغِيرَةَ مِنْ الْمَعَاصِي كَذَلِكَ؛ فَلِذَلِكَ قَالُوا: لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ إلَّا أَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ شَأْنِهَا فِي الْوَاقِعِ أَنَّهَا قَدْ يُصَرُّ عَلَيْهَا، وَقَدْ لَا يُصَرُّ عَلَيْهَا وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي طَرْحُ الشَّهَادَةِ، وَسَخْطَةُ الشَّاهِدِ بِهَا، وَعَدَمُهُ بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ فَإِنَّ شَأْنَهَا فِي الْوَاقِعِ الْمُدَاوَمَةُ وَالْحِرْصُ عَلَى أَنْ لَا تَزُولَ مِنْ مَوْضِعِهَا، وَأَنْ تَقُومَ عَلَى تَارِكِهَا الْقِيَامَةُ وَتَنْطَلِقَ عَلَيْهِ أَلْسِنَةُ الْمَلَامَةِ وَيُرْمَى بِالتَّسْفِيهِ وَالتَّجْهِيلِ وَيُنْبَزَ بِالتَّبْدِيعِ وَالتَّضْلِيلِ ضِدُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَوَّلًا الِاعْتِبَارُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ الْقِيَامُ بِالنَّكِيرِ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ إنْ كَانَ لَهُمْ عُصْبَةٌ أَوْ لَصِقُوا بِسُلْطَانٍ تَجْرِي أَحْكَامُهُ فِي النَّاسِ، وَتَنْفُذُ أَوَامِرُهُ فِي الْأَقْطَارِ، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى
وَثَانِيًا: النَّقْلُ فَقَدْ ذَكَرَ السَّلَفُ أَنَّ الْبِدْعَةَ إذَا أُحْدِثَتْ لَا تَزِيدُ إلَّا مُضِيًّا، وَالْمَعَاصِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَقَدْ يَتُوبُ صَاحِبُهَا وَيُنِيبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بَلْ قَدْ جَاءَ مَا يَشُدُّ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْفِرَقِ فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ لِصَاحِبِهِ، وَمِنْ هُنَا جَزَمَ السَّلَفُ بِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا تَوْبَةَ لَهُ مِنْهَا
(وَالشَّرْطُ الثَّانِي) : أَنْ لَا يَدْعُوَ إلَيْهَا فَإِنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ صَغِيرَةً بِالْإِضَافَةِ ثُمَّ يَدْعُو مُبْتَدِعُهَا إلَى الْقَوْلِ بِهَا وَالْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَاهَا فَيَكُونُ إثْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ الَّذِي أَثَارَهَا، وَسَبَبُ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا فَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، وَالصَّغِيرَةُ إنَّمَا تُفَاوِتُ الْكَبِيرَةَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْإِثْمِ وَقِلَّتِهِ فَرُبَّمَا تُسَاوِي الصَّغِيرَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْكَبِيرَةَ أَوْ تُرْبَى عَنْهَا
(وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ) أَنْ لَا تُفْعَلَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مُجْتَمَعَاتُ النَّاسِ، أَوْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ، وَتَظْهَرُ فِيهَا أَعْلَامُ الشَّرِيعَةِ فَأَمَّا إظْهَارُهَا فِي الْمُجْتَمَعَاتِ مِمَّنْ يُقْتَدَى