(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعَجَبِ وَقَاعِدَةِ التَّسْمِيعِ) كِلَاهُمَا مَعْصِيَةٌ وَيُعَكِّرُ عَلَى الْعِبَادَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُوَازَنَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الْإِحْبَاطِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَيْ يُنَادِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا فُلَانٌ عَمِلَ عَمَلًا لِي ثُمَّ أَرَادَ بِهِ غَيْرِي، وَهُوَ غَيْرُ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَقَعُ قَبْلَهُ خَالِصًا، وَالرِّيَاءُ مُقَارِنٌ مُفْسِدٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُجْبِ أَنَّهُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَالْعُجْبُ بِالْقَلْبِ كِلَاهُمَا بَعْدِ الْعِبَادَةِ
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَبَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ) اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَلْتَبِسَانِ عَلَيْهِ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّخَطِ بِالْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِهِ، وَالسَّخَطِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِالْمُقَضَّى) قُلْت: مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ مَا عَدَا قَوْلَهُ: وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ مَعَ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِ فَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِنْ الْكَافِرِ عِنَادًا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ ذَلِكَ عَادَةً، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ عَادَةً فَلَا، وَمَا عَدَا قَوْلَهُ فَمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْ الْكُفْرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُلَاحِظَ جِهَةَ الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ فَيَكْرَهُهُمَا، وَأَمَّا قَدَرُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِيهِمَا فَالرِّضَا بِهِ لَيْسَ إلَّا وَمَتَى سَخِطَهُ وَسَفَّهَ الرُّبُوبِيَّةَ فِي ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً أَوْ كُفْرًا مُنْضَمًّا إلَى مَعْصِيَتِهِ وَكُفْرِهِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ كَرَاهَةَ الْكُفْرِ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِهِ أَوْ مِمَّنْ يُحْسَنُ الظَّنُّ بِهِ فَذَلِكَ مِنْ أَضَرِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى سُنَّةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا لَا تَعْدُو أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يُقْتَدَى بِصَاحِبِهَا فِيهَا فَإِنَّ الْعَوَامَّ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ لَا سِيَّمَا الْبِدَعُ الَّتِي وُكِّلَ الشَّيْطَانُ بِتَحْسِينِهَا لِلنَّاسِ، وَاَلَّتِي لِلنُّفُوسِ فِي تَحْسِينِهَا هَوًى، وَعَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ الْإِتْبَاعِ يَعْظُمُ عَلَيْهِ الْوِزْرُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ فَهُوَ كَالدُّعَاءِ إلَيْهَا بِالتَّصْرِيحِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ إظْهَارِ الشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ تَوَهُّمُ أَنَّ كُلَّ مَا ظَهَرَ فِيهَا فَهُوَ مِنْ الشَّعَائِرِ فَكَانَ الْمُظْهِرُ لَهَا يَقُولُ: هَذِهِ سُنَّةٌ فَاتَّبِعُوهَا
(وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ) أَنْ لَا يَسْتَصْغِرَهَا، وَلَا يَسْتَحْقِرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ فَرَضْنَاهَا صَغِيرَةً اسْتِهَانَةٌ بِهَا، وَالِاسْتِهَانَةُ بِالذَّنْبِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعِظَمِ مَا هُوَ صَغِيرٌ، وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ أَنَّهَا أَدْنَى رُتْبَةً فِي الذَّمِّ مِنْ رُتْبَةِ الصَّغِيرَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا التَّنْزِيهَ الَّذِي هُوَ نَفْيُ إثْمِ فَاعِلِهَا، وَرَفْعُ الْحَرَجِ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْخُصُوصِ أَمَّا الشَّرْعُ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ مَنْ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ اللَّيْلَ، وَلَا أَنَامُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْكِحُ النِّسَاءَ إلَى آخِرِ مَا قَالُوا رَدَّ عَلَيْهِمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ، وَقَالَ «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ أَشَدُّ شَيْءٍ فِي الْإِنْكَارِ مَعَ أَنَّ مَا الْتَزَمُوا لَمْ يَكُنْ إلَّا فِعْلَ مَنْدُوبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَجْلِسَ، وَيَصُومَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» قَالَ مَالِكٌ: أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ طَاعَةٌ، وَيَتْرُكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ مَالِكٌ الْقِيَامَ لِلشَّمْسِ وَتَرْكَ الْكَلَامِ وَالْجُلُوسِ مَعَاصِيَ حَتَّى فَسَّرَ بِهَا الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ مَعَ أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا أَشْيَاءُ مُبَاحَاتٌ لَكِنَّهُ لَمَّا أَجْرَاهَا مَجْرَى مَا يُتَشَرَّعُ بِهِ، وَيُدَانُ لِلَّهِ بِهِ صَارَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَعَاصِيَ لِلَّهِ وَكُلِّيَّةً قَوْلُهُ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَالْجَمِيعُ يَقْتَضِي التَّأْثِيمَ وَالتَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ.
وَهِيَ خَاصِّيَّةُ الْمُحَرَّمِ، قَالَ: وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ، وَإِنْ أَطْلَقُوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ وَيَخُصُّونَ كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: ١١٦] وَحَكَى مَالِكٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا وَجَدْت فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَوْ غَيْرِهَا أَكْرَهُ هَذَا، وَلَا أُحِبُّ هَذَا وَهَذَا مَكْرُوهٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا تَقْطَعَنَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ فَإِنَّهُ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ فِي جَمِيعِ الْبِدَعِ عَلَى أَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ يَعُدُّ فِيهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُطْلِقُوا لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى مَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُ أَمْرٌ آخَرُ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ فَيُكْرَهُ لِأَجْلِهِ لَا؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ. اهـ. مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْ كَلَامِ الشَّاطِبِيِّ فِي الِاعْتِصَامِ قُلْت: وَحَاصِلُ طَرِيقَتَيْ عَدَمِ التَّفْصِيلِ فِي الْبِدَعِ أَنَّهَا عَلَى الْأُولَى لَا تَكُونُ إلَّا كَبَائِرَ.
وَإِنْ تَفَاوَتَتْ أَفْرَادُهَا بِكَثْرَةِ الْعِقَابِ وَعَدَمِ كَثْرَتِهِ وَأَنَّهَا عَلَى الثَّانِيَةِ تَكُونُ كَبَائِرَ أَوْ صَغَائِرَ أَوْ مَكْرُوهَةً إلَّا أَنَّ صَغَائِرَهَا وَإِنْ كَانَتْ كَصَغَائِرِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَعَاصِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute