لِعَدَمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ.
وَأَمَّا الْمُكَفِّرَاتُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ قَدْ تَكُونُ كَذَلِكَ مُكْتَسَبَةً مَقْدُورَةً مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ لِقَوْلِهِ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: ١١٤] وَقَدْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ كَمَا تُكَفِّرُ التَّوْبَةُ وَالْعُقُوبَاتُ السَّيِّئَاتِ، وَتَمْحُو آثَارَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَصَائِبُ الْمُؤْلِمَاتُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: ٣٠] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
لِعَدَمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ)
قُلْت هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ رَفْعَ الدَّرَجَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِي أَسْبَابِهَا كَوْنُهَا مُكْتَسَبَةً، وَلَا مَأْمُورًا بِهَا فَمِنْهَا مَا يَكُونُ سَبَبُهُ كَذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ الْآلَامُ وَجَمِيعُ الْمَصَائِبِ وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ دَلَائِلُ وَظَوَاهِرُ الشَّرْعِ مُتَظَاهِرَةٌ يُعَضِّدُهَا قَاعِدَةُ رُجْحَانِ جَانِبِ الْحَسَنَاتِ الْمَقْطُوعِ بِهَا وَمَا اُسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: ٣٩] وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: ١٦] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخُصُوصِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ: وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَزِيَادَةِ النَّعِيمِ فَلَا يُسَمَّى ثَوَابًا وَلَا أَجْرًا، وَلَا جَزَاءً فَإِنَّهَا أَلْفَاظٌ مُشْعِرَةٌ بِالْإِعْطَاءِ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَالْأَمْرُ فِيمَا يَقُولُهُ قَرِيبٌ؛ إذْ لَا مُشَاحَّةَ فِي الْأَلْفَاظِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُهُ الْآيَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ كُلِّهَا مَعَ الْخِلَافِ فِي الْبَدَنِيَّةِ كُلِّهَا أَوْ مَا عَدَا الصَّلَاةَ مِنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْآيَتَيْنِ وَشِبْهِهِمَا عَلَى الْإِيمَانِ أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ قَالَ (وَأَمَّا الْمُكَفِّرَاتُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ قَدْ تَكُونُ كَذَلِكَ مُكْتَسَبَةً مَقْدُورَةً مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: ١١٤] وَقَدْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ كَمَا تُكَفِّرُ التَّوْبَةُ وَالْعُقُوبَاتُ السَّيِّئَاتِ وَتَمْحُو آثَارَهَا وَمِنْ ذَلِكَ الْمَصَائِبُ الْمُؤْلِمَاتُ) قُلْت: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلَهُ: وَتَمْحُو آثَارَهَا فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَحْوَهَا مِنْ الصَّحَائِفِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْإِحْبَاطِ، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَالَ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: ٣٠] قُلْتُ لَا دَلِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْمَصَائِبِ مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ أَوْ غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّ الْمَصَائِبَ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ، وَأَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَا يُقَابَلُ بِمُصِيبَةٍ يَكُونُ سَبَبًا لَهَا بَلْ يُسَامَحُ فِيهِ وَيُعْفَى عَنْهُ.
قَالَ (وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
تَصِلْ إلَى مَفْسَدَةِ الْإِفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ قَالَ: وَالْبَاعِثُ عَلَى النَّمِيمَةِ مِنْهُ إرَادَةُ السُّوءِ بِالْمَحْكِيِّ عَلَيْهِ أَوْ الْحُبِّ لِلْمَحْكِيِّ لَهُ أَوْ الْفَرَحِ بِالْخَوْضِ فِي الْفُضُولِ، وَعِلَاجُ النَّمِيمَةِ هُوَ نَحْوُ مَا قَالُوهُ فِي عِلَاجِ الْغِيبَةِ.
وَهُوَ إمَّا إجْمَالِيٌّ بِأَنْ تَعْلَمَ أَنَّك قَدْ تَعَرَّضْت بِهَا لِسَخَطِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَعُقُوبَتِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْأَخْبَارُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهَا تُحْبِطُ حَسَنَاتِك لِمَا فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ فِي الْمُفْلِسِ مِنْ أَنَّهُ تُؤْخَذُ حَسَنَاتُهُ إلَى أَنْ تَفْنَى فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وُضِعَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ خَصْمِهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ سَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فَمِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ الْغِيبَةُ سَبَبًا لِفَنَاءِ حَسَنَاتِك وَزِيَادَةِ سَيِّئَاتِك فَتَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ تَحُتَّانِ الْإِيمَانَ كَمَا يُعَضِّدُ الرَّاعِي الشَّجَرَةَ وَمِمَّا يَنْفَعُك أَيْضًا أَنَّك تَتَدَبَّرُ فِي عُيُوبِك، وَتَجْتَهِدُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْهَا وَتَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ تَذُمَّ غَيْرَك بِمَا أَنْتَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ، أَوْ بِنَظِيرِهِ فَإِنْ كَانَ أَمْرًا خِلْقِيًّا فَالذَّمُّ لَهُ ذَمٌّ لِلْخَالِقِ إذْ مَنْ ذَمَّ صَنْعَةً ذَمَّ صَانِعَهَا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَك عَيْبًا، وَهُوَ بَعِيدٌ فَاشْكُرْ اللَّهَ؛ إذْ تَفَضَّلَ عَلَيْك بِالنَّزَاهَةِ عَنْ الْعُيُوبِ وَيَنْفَعُك أَيْضًا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ تَأَذِّي غَيْرِك بِالْغِيبَةِ كَتَأَذِّيك بِهَا فَكَيْفَ تَرْضَى لِغَيْرِك مَا تَتَأَذَّى بِهِ، وَإِمَّا تَفْصِيلِيٌّ بِأَنْ تَنْظُرَ فِي بَاعِثِهَا فَتَقْطَعَهُ مِنْ أَصْلِهِ؛ إذْ عِلَاجُ الْعِلَّةِ إنَّمَا يَكُونُ بِقَطْعِ سَبَبِهَا، وَإِذَا اسْتَحْضَرْت الْبَوَاعِثَ عَلَيْهَا، وَهِيَ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الْغَضَبُ وَالْحِقْدُ وَتَشَفِّي الْغَيْظِ بِذِكْرِ مَسَاوِئِ مَنْ أَغْضَبَك، وَمِنْهَا مُوَافَقَةُ الْإِخْوَانِ وَمُجَامَلَتُهُمْ بِالِاسْتِرْسَالِ مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، أَوْ إبْدَاءُ نَظِيرِ مَا أَبْدَوْهُ خَشْيَةَ أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ أَوْ أَنْكَرَ اسْتَثْقَلُوهُ.
وَمِنْهَا الْحَسَد لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَمِنْهَا قَصْدُ الْمُبَاهَاةِ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ، وَمِنْهَا السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ تَحْقِيرًا لَهُ ظَهَرَ لَك السَّعْيُ فِي قَطْعِهَا كَأَنْ تَسْتَحْضِرَ فِي الْغَضَبِ أَنَّك إنْ أَمْضَيْت غَضَبَك فِيهِ بِغِيبَةٍ أَمْضَى اللَّهُ غَضَبَهُ فِيك لِاسْتِخْفَافِك بِنَهْيِهِ وَجَرَاءَتِك عَلَى وَعِيدِهِ، وَفِي حَدِيثٍ أَنَّ «لِجَهَنَّمَ بَابًا لَا يَدْخُلُهُ إلَّا مَنْ شَفَى غَيْظَهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -» وَفِي الْمُوَافَقَةِ أَنَّك إذَا أَرْضَيْت الْمَخَالِيقَ بِغَضَبِ اللَّهِ عَاجَلَك بِعُقُوبَتِهِ؛ إذْ لَا أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - وَفِي الْحَسَدِ أَنَّك جَمَعْت بَيْنَ خَسَارِ الدُّنْيَا بِحَسَدِك لَهُ عَلَى نِعْمَتِهِ وَكَوْنِهِ مُعَذَّبًا بِالْحَسَدِ وَخَسَارَةِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّك نَصَرْته بِإِهْدَاءِ حَسَنَاتِك إلَيْهِ أَوْ طَرْحِ سَيِّئَاتِهِ عَلَيْك فَصِرْت صَدِيقَهُ وَعَدُوَّ نَفْسِك فَجَمَعْت إلَى خُبْثِ حَسَدِك جَهْلَ حَمَاقَتِك، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْك سَبَبَ انْتِشَارِ فَضْلِهِ كَمَا قِيلَ
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ ... طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ