اقتضت الحكمة الإلهية أن تتعدد مظاهر العبادة والشرائع بين الأمم والملل المختلفة، وليس هذا التعدد إلا شكليات وأحوالا، جوهرها واحد، وغايتها واحدة، وهي الاتجاه إلى الله الخالق الذي يعبده جميع الناس، فلا يصح أن يكون التفاوت في هذه العبادات سببا للاختلاف والحوار والعداء والخصام، وإنما ينبغي الاتفاق والاتحاد في المضمون، وتفويض الأمر إلى الله المعبود، وتصفية النفوس من الأحقاد والبغضاء، والحسد والعصبية، فإن لم يتحقق هذا كان الحساب عسيرا، والحكم بين العباد يوم القيامة شديدا، ولا يغيب عن الله شيء في الأرض ولا في السماء، ومعلومات الخلائق كلها مدوّنة في اللوح المحفوظ، وإحضارها وجمعها وحفظها يسير على الله، قال الله تعالى مبينا هذا الاختلاف في المناسك:
أخبر الله تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا، أي عبادة وشريعة، يتعبدون بها، ويسيرون على منهاجها، بحسب ظروف الزمان المكان، ومقتضيات التدرج والتطور، ونضج الفكر والعقل، فأنزل الله التوراة على موسى عليه السلام فيها لون من الشدة تتفق مع طبائع بني إسرائيل، ثم أنزل الله الإنجيل على عيسى عليه السلام لتخفيف حدة المادة والطقوس والشكليات وضرورة العناية بالجوهر والروحانيات، وإشاعة
(١) المنسك: مصدر بمعنى العبادة والشريعة، وهو أيضا موضع النسك، والأول هو المراد هنا.