وبعد فلمناسبةِ ذكرِ التوكُّل واقترانِه بالتّقوى فيما أوردنا عليك من الآياتِ الكريمةِ والأحاديثِ الشريفة، وإشادة الإسلام به، والحثِّ على أن يكونَ شعارَ المؤمن في كلّ أسبابه، رأينا أن نلمَّ به وبحقيقته إلماماً. فنقول: التوكُّل: كلمةٌ يراد بها أمران، لا يعدُّ التوكل توكُّلاً على الحقيقة إلا إذا تحقّقا معاً. فأما أول الأمرين فهو: الاعتقاد بأنّ الله عزَّ وتقدّس هو وحده الذي بيده كل شيء، وأنّه لا سواه الذي له مقاليد السموات والأرض، وأن جميع الخلق فقراء كلَّ الفقر إلى عونه سبحانه، وأنه:
إذا لَمْ يكُنْ عَونٌ من اللهِ للفَتى ... فأوَّلُ ما يَجني عليه اجْتِهادُهُ
وكل هذا ممّا لا خفاءَ بأنّه ممّا تقتضيه عقيدةُ التّوحيد التي قام عليها الإسلام؛ وأما الأمر الآخر فهو: أن لا يكونَ المرءُ وَكَلةً، فلا يعتمد بعد اللهِ إلا على نفسِه، وهذا الأمر الثاني يكاد يكون ضربَ قولهم اليوم الاعتماد على النفس أو قول الطّغرائيّ:
وإنّما رَجُلُ الدُّنيا وواحِدُها ... مَن لا يُعوِّلُ في الدُّنْيا على رَجُلِ
والشطر الأول، يقتضي الاعتقادَ بالقدر خيرِه وشرِّه، والشطر الآخر يقتضي السَّعيَ والاحتياطَ لأمره، ولا تَنافرَ بينهما البتّة، وإنّما هما، لدى إنعام النظرِ، شيءٌ واحدٌ يُعبَّر عنه
بالتوكل. . .
جاء رجلٌ إلى سيدنا رسول الله فقال له: إنّي أرسل ناقتي وأتوكّل: فقال صلوات الله عليه: (بل اعْقِلْها وتوكَّل). . . ومرّ الشّعبيُّ بإبلٍ قد فشا فيها الجَرَب: فقال لصاحبها: أما تداوي إبلَك؟ فقال: إنّ لنا عجوزاً نتّكل على دُعائِها! فقال: اجْعل مع دعائِها