ولأنَّ الدُّنيا التي أسماها سيَّدُنا رسولُ الله: أمَّ دَفْر - والدَّفْرُ، النَّتَن، دَفْراً دافِراً لهذه الدنيا - أقول: لما كانت هذه الدنيا دارَ مصائبَ ومحنٍ وأكدار، وحسبُك بهادِمِ اللذّات - الموت - الذي فضحَ هذه الدُّنيا وبنيها أيَّما فضيحةٍ والذي هو نهاية كل حي، من مصيبة أيّ مصيبة - لأجل هذا قال الأوائل والأواخر في هذه الدنيا وأبدعوا وافتنّوا كلَّ الافتنان، ونحن فسوف نورد عليك أطيبَ ما قالوا في ذلك، لما بينه وبين الصبر من واشِجةِ الرحم، ولأنه كلامٌ خالد، لأنه حق وصدق، لا يليق بعاقل أن لا يكترثَ له، وإنّما الواجب أن يجعلَه دائماً نصب عينيه، وأن ينظر إليه نظرةَ رجلٍ ثاقبِ الرأي بعيد أفق الفكر. لا نظرةَ رجلٍ أحمقَ مُمْتَلَخِ العقل أعمته أباطيلُ هذه الحياة وألهاهُ التكاثرُ وبَهْرَجَها عن كُنْهِها فارْتَطمَ في أوْحالها وصار يَمْلَخ في لذاذاتها مَلْخاً، لاهياً عن المنهاة المؤسفة التي تنتظرنا جميعاً، جالباً بنفسه على نفسه ما يضاعف آلامَها، لا ما يخفِّف أحزانها ويهوّن ما أمكن شدائدَها وأكدارَها. ونحن إذْ نورد في هذا الكتاب ما قالوا في الدُّنيا فإنا لا ندعو إلى الزُّهد فيها وفي تعميرها - كما سيمرُّ عليك في هذا الفصل - ولكن ما دام كتابُنا في عبقريات الأوائل والأواخر، في كلِّ شيء، كان واجباً علينا أن نوردَ عبقرياتِهم في الدُّنيا، وفي الموت، كما نورد عبقرياتهم في سائر المعاني التي يعالجها الناس ويتداولونها فيما بينهم، على أنّهم إذ ذمّوا الدنيا إنّما
يترامَوْن بذلك أوّلاً إلى أن يصدعوا بالحقيقة وهي أن الدُّنيا في الواقع دارُ أحزانٍ وأكدار، وثانياً إلى حثِّ الناس على الإجمال في الإقبال عليها، والتعقُّل في