للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[حساب الزمان والسنين]

وإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ -الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ-. (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (١).


(١) العام يتكون من اثني عشر شهراً قمرياً. والطريقة التي بينها الإسلام في حساب السَّنة والشَّهر والأسبوع واليوم هي أقْوَم طريقة، فالحول (السنة)؛ لم يكن له حد ظاهر في السماء، فكان لا بد فيه من الحساب والعدد، فكان عدد الشهور الهلالية أظهر وأعم من أن يحسب بسير الشمس، فجُعلت السنة اثني عشر شهراً قمرياً هي: مُحَرَّمَ، و صَفَرٍ، و رَبِيعُ الْأَوَّلِ، و رَبِيعُ الْآخِرِ، وَجُمَادَى الأولى َجُمَادَى الآخرة، وَرَجَبٌ، وَشَعْبَانُ، و رَمَضَانُ، وَشَوَّالُ، و ذو الْقَعْدَةِ، و ذو الْحِجَّةِ. وهي بعدد البروج التي تكمل بدور الشمس فيها سنة شمسية، فإذا دار القمر فيها كمل دورته السنوية، وبهذا كله يتبين معنى قوله: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَموا عَدَدَ السِّنينَ والحِسابِ}؛ فإن عدد شهور السنة وعدد السنة بعد السنة إنما أصله بتقدير القمر منازل، وكذلك معرفة الحساب؛ فإن حساب بعض الشهور لما يقع فيه من الآجال ونحوها إنما يكون بالهلال، وكذلك قوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَواقيتُ للنَّاسِ وَالحَجِّ}. فأخبر الله أن هذا هو الدين القيم؛ ليبين أن ما سواه من أمر النسيء وغيره من عادات الأمم ليس قيماً لما يدخله من الانحراف والاضطراب. فاليوم الطبيعي ليلته من غروب الشمس إلى شروقها ونهاره من طلوع الشمس إلى غروبها، وأما الأسبوع؛ فهو عددي من أجل الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض ثم استوى على العرش، فوقع التعديل بين الشمس والقمر باليوم، والأسبوع بسير الشمس، والشهر والسنة بسير القمر، وبهما يتم الحساب، فالهلال يكون توقيت الشهر والسنة، وليس شيء يقوم مقام الهلال ألبتة لظهوره وظهور العدد المبني عليه وتيسر ذلك وعمومه، وغير ذلك من المصالح الخالية عن المفاسد. فالسنة القمرية: هي اثنا عشر شهرًا قمريًا، والشهرُ القمريُّ يكون حسب رؤية الهلال إما ٢٩ أو ٣٠ يوماً، وبالحساب الفلكي الدقيق: (٥٨٨ ٥٣٠، ٢٩) يوماً! والسنةُ القمريةُ (٣٥٤) يوماً، وثماني ساعات، و (٤٨) دقيقة، و (٣٦) ثانية! أَما السنةُ الشمسيةُ فإِنَّها (٣٦٥) يوماً، وستُّ ساعات، وتسعُ دقائق، و (٥.٩) ثانية!!. وهي مدّة وصول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من نفس البرج.
والتأريخ القمري تأريخ كوني منذ خلق السموات والأرض، والشهر فيه مرتبط بظاهرة كونية ميسرة وواضحة يراها جميع البشر وهي دورة القمر في منازله في ٢٩ أو ٣٠ يوماً كما يراه الناس - وبهذه الرؤية ترتبط العبادة الشرعية- وجعل البشر يعرفون مواسم مناسبة الزراعة وتكاثر النبات والحيوان بمعرفة مواقيت الأبراج ومنازل القمر وطوالع النجوم في قبة السماء فيتعلمون منها معرفة أوقات الفصول الأربعة وتغيراتها ومعرفة الاتجاهات (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ). ومن نعم الله أن جعل التغاير في مدة السنة الكونية القمرية مع دورة الشمس في منازل الأبراج. ونتيجة هذا التغاير أن ينعم الناس بالفصول الأربعة الصيف والشتاء والخريف والربيع في كل شهورهم القمرية على مدى السنين، فيصومون شهر رمضان مرة في الربيع ومرة في الشتاء وأخرى في الصيف أو الخريف، وهكذا في شهور الحج وسائر الشهور.
وقد كان التقويم عند الرومان قمرياً لكن السنة فيه تتألف من عشرة أشهر فقط حتى جاء ملك روما (توما الثاني ٧١٦ - ٦٧٣ ق. م) الذي أضاف شهري يناير وفبراير وأصبحت السنة تتألف من ٣٥٥ يوماً. ثم في قرابة سنة ٤٥ قبل الميلاد استعان الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر ببعض الفلكيين الإسكندريين لوضع تأريخ حسابي، يعتمد عليه، ويؤرخ به، فوضعوا له تأريخاً مستنداً إلى السنة الشمسية حيث كانوا يعظمون الشمس، وتمثل تعديلهم في جعل السنة العادية ٣٦٥ يوماً والكبيسة ٣٦٦ يوماً. ثم بعد ميلاد المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام- بعدة قرون تم تحويل التقويم الشمسي إلى التأريخ النصراني الميلادي لتكون بدايته من أول السنة الميلادية نسبة إلى ميلاد المسيح عيسى - عليه السلام - وأن تكون بداية هذا التأريخ: الأول من يناير لأنه يوم ختان المسيح - عليه السلام - كما يزعمون؛ حيث إن ميلاده - عليه السلام - كما يقال كان في ٢٥ ديسمبر (كانون الأول) وعندها عرف هذا التأريخ بالتأريخ الميلادي. ثم قام بابا النصارى (جوريجوري الثالث عشر) بمحاولة إصلاح الخطأ في هذا التأريخ وهو عدم مطابقة السنة الحسابية على السنة الفعلية للشمس مما أدى إلى وجود فرق سنوي قدره إحدى عشرة دقيقة بين الحساب والواقع الفعلي، ولأنه يرى أن موسم عيد الفصح يجب أن يكون في الربيع؛ فقام بإعلان حذف أحد عشر يوماً من التاريخ في لحظة وتعديل التقويم من يوم ٤ أكتوبر ١٥٨٢ م مباشرة إلى يوم ١٥ أكتوبر ١٥٨٢ م وسمي هذا التعديل بـ (التأريخ الجوريجوري) ولقي معارضة كبيرة حيث قاومته الدول غير الكاثوليكية ثم استقر العمل به في غالب الدول النصرانية. ولما سقطت حضارة المسلمين وخلافتهم وتسلط أعداء تلك الحضارة؛ فرضوا التأريخ الجريجوري على الناس وسمّوه (الميلادي)، واستخدموا التقانة والتطور في الحساب لطباعة تقويم جريجوري طويل الأمد بالتعديلات البشرية ليتوافق مع دورة الشمس والفصول الأربعة والاعتدال الربيعي والصيفي ولرغبتهم أن تتكرر مناسبة ميلاد المسيح (المختلف في تحديدها) لتكون في الشتاء في الخامس والعشرين من ديسمبر، ولرغبتهم أن يوافق عيد الفصح عندهم موسم الربيع دوماً. وفرضوا نشر هذا التقويم على الناس مع ما فيه من التغيير والتعديل. فأضل الله النصارى عن الارتباط الصحيح بسنين الكون فضلوا باتباع أهواء أحبارهم ورهبانهم وملوكهم وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل. وقد حذرت نصوص الوحي من اتباع سَنَن وطرق اليهود والنصارى؛ فلو أخرج المسلم زكاته بحول التقويم الشمسي لكان آثماً بتأخير الحق عن مستحقه وعدم اعتبار الحول الشرعي، ولو ضحى أضحيته بحسابه لربما ما أجزأته.
فالمسلمون يعتمدون في العبادة الشرعية على رؤية الأهلة لقوله عليه الصلاة والسلام لما ذكر رمضان: "إنا أمة أمية، لا نكتب، ولا نحسب" أي: لم نكلف في معرفة مواقيت صومنا ولا عباداتنا إلى معرفة حساب فلكي ولا كتابة، وإنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة في السماء وأمور ظاهرة، يستوي في معرفتها؛ الحاسبون وغيرهم. ثم قال:" الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا" - يعني: ثلاثين - ثم قال: "وهكذا وهكذا، وهكذا" وقبض إبهامه في الثالثة - يعني: تسعاً وعشرين - يعني مرة يكون ثلاثين، ومرة تسعاً وعشرين. "فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته ". كما أن الدَّيْنَ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى كِتَابَةٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ قَدْ سَهل اللَّهُ وَيَسَّرَ حِفْظَهُ عَلَى النَّاسِ، وَالسُّنَنُ أَيْضًا مَحْفُوظَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومروية بالحفظ.
ولما دعت الحاجة المسلمين إلى التخطيط لمواعيد أعمالهم المستقبلية وسفرهم ولقاءاتهم ومواسم الفصول الأربعة وتغيراتها، وأن تكون ضمن تقويم مطبوع للسنين القادمة؛ عمدوا إلى طباعة تقاويم هجرية حتى يخططوا عليها أمور دنياهم، ومنها: (تقويم أم القرى) وهو تقويم قمري يعتمد على دورة القمر لتحديد الأشهر، وأضافوا في طباعته منازل الشمس والقمر وطوالع النجوم التي جعلها الله علامات يهتدي بها الناس في معرفة تغيرات الطقس والفصول الأربعة ومواسم الزراعة والتكاثر الفطري. ويعتمد إحداثيات (خط الطول وخط العرض) للكعبة المشرفة في مكة المكرمة أساساً لتقويم أم القرى، كما يعتمد ولادة الهلال فلكياً حال غروب القمر بعد غروب الشمس في مكة المكرمة.
ولو لم يكن للمسلمين تقويم مطبوع؛ فإنهم هم يؤرخون بالنظر في السماء والقمر ويهتدون إلى مواعيد فصول السنة بالنظر في قبة السماء ومنازل الشمس والقمر وطوالع تلك النجوم، ولهم في ذلك علوم وعلوم متناقلة وأشعار ومنظومات تؤصل خبرتهم الدقيقة العالية في التأمل في النجوم والاهتداء للاتجاهات ودراسة تغيرات الزمان وأثرها على الأرض.

<<  <   >  >>