للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[قصة الثلاثة الذين خُلِّفُوا]

قال كعب بن مالك رضي الله عنه: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك -وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام- غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحداً تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير (١) قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا (٢) على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر (٣) في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان (٤) قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى (٥) بغيرها، وكان يقول: "الحرب خدعة "، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد حين طابت الثمار والظلال، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً (٦) وعدواً كثيراً، فجلّى (٧) للمسلمين أمرهم، ليتأهبوا أهبة (٨) غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير يزيدون على عشرة آلاف، ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - فما رجل يريد أن يتغيب، إلا ظن أن سيخفى له - ما لم ينزل فيه وحي الله -، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت (٩) أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي، حتى اشتد بالناس الجد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه يوم الخميس - ولقلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا خرج في سفر، إلا خرج يوم الخميس - وأنا لم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت (١٠) بعد أن فصلوا (١١) لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئاً، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط (١٢) الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك،


(١) العير: كل ما جلب عليه المتاع والتجارة، من قوافل الإبل والبغال والحمير.
(٢) تواثقنا: تعاهدنا.
(٣) أي: أعظم ذكرا.
(٤) الراحلة: البعير القوي على الأسفار والأحمال، ويقع على الذكر والأنثى.
(٥) ورّى: أخفى مراده، وستر غايته، وأوهمهم بأمر آخر.
(٦) المفازة: البرية القفر، سميت مفازة تفاؤلاً.
(٧) جلّى: أظهر وأبان.
(٨) التأهب والأهبة: التجهز والاستعداد.
(٩) طفق يفعل الشيء: أخذ في فعله واستمر فيه.
(١٠) الغدو: السير أول النهار.
(١١) (فصلوا) أي: خرجوا من المدينة. كقوله تعالى: {ولما فصلت العير} أي: خرجت منطلقة من مصر إلى الشام.
(١٢) أي: فات وسبق، والفرط: السبق.

<<  <   >  >>