للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[رحمة الله]

ولَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ؛ كَتَبَ كِتَابًا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: "إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي"، وإِنَّ اللهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ (مِائَةَ جُزْءٍ)، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ (١) مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ، وَالْبَهَائِمِ، وَالْهَوَامِّ، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ، وَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوُحُوشُ عَلَى أَوْلَادِهَا، وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ. وَادَّخَرَ عِنْدَهُ لِأَوْلِيَائِهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ضَمَّهَا إِلَيْهَا فَأَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ وَرَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ (٢)، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِمَا عِنْدَ اللهِ مِنْ الرَّحْمَةِ، لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِمَا عِنْدَ اللهِ مِنْ الْعَذَابِ؛ مَا طَمِعَ فِي الْجَنَّةِ أَحَدٌ. ولَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ.


(١) يعني: ملء ما بينهما.
(٢) كأن المراد بالعباد هنا: أولياؤه المؤمنون فقد سبقها بقوله:" وَادَّخَرَ عِنْدَهُ لِأَوْلِيَائِهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً"، ولَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رحِيماً). ويؤيده ما أخرجه أحمد والحاكم من حديث أنس قال: " مر النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه وصبي على الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني، ابني، وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال: ولا الله بطارح حبيبه في النار "، فالتعبير بحبيبه يخرج الكافر، وكذا من شاء إدخاله ممن لم يتب من مرتكبي الكبائر. وهو كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كل شَيْء فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ) فَهِيَ عَامَّةٌ مِنْ جِهَةِ الصَّلَاحِيَّةِ وَخَاصَّةٌ بِمَنْ كُتِبَتْ لَهُ، والله أعلم.

<<  <   >  >>