للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[رفض بني إسرائيل دخول الأرض المقدسة]

ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى أَتَوُا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَوَجَدُوا فِيهَا مَدِينَةً فِيهَا قَوْمٌ جَبَّارُونَ، فَقَالُوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} لا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، وَلا نَدْخُلُهَا مَا دَامُوا فِيهَا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ.

قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ اللَّهَ، وَهُمَا يُوشَعُ بن نون وَكَالِبُّ يوفنا: إِنْ كُنْتُمْ إِنَّمَا تَخَافُونَ مِمَّا تَرَوْنَ مِنْ أَجْسَامِهِمْ وَعِدَّتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لا قُلُوبَ لَهُمْ، وَلا مَنَعَةَ عِنْدَهُمْ، فَادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ، فكان ردهم أنهم {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ، فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ}، فَأَغْضَبُوا مُوسَى، فَدَعَا عَلَيْهِمْ، وَسَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ - وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ - لِمَا رَأَى مِنْهُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَإِسَاءَتِهِمْ، حَتَّى كَانَ يَوْمُئِذٍ، فَاسْتَجَابَ اللهُ لَهُ، فَسَمَّاهُمْ كَمَا سَمَّاهُمْ مُوسَى: {فَاسِقِينَ}، وَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ، فَيَسِيرُونَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ.

ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ، وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَابًا لا تَبْلَى وَلا تَتَّسِخُ، وَجَعَلَ بَيْنَ ظُهُورِهِمْ حَجَرًا مُرَبَّعًا، وَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَلاثَةُ أَعْيُنٍ، وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمُ الَّتِي يَشْرَبُونَ مِنْهَا لا يَرْتَحِلُونَ مِنْ مَنْقَلَةٍ إِلَّا وُجِدَ ذَلِكَ الْحَجَرُ فِيهِمْ بِالْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بِالأَمْسِ. وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (١)، ولَوْلَا بَنو إِسْرَائِيل لَمْ يَخْبُثِ الطَّعَامُ , وَلَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ (٢).


(١) الْمَنُّ: الطَّلُّ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الشَّجَرِ كمثل الصمغ، أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ. وقيل: كان يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ سُقُوطَ الثَّلْجِ. وَالسَّلْوَى: نوع من الطَّيْرُ يُشْبِهُ السُّمَانَى. قال ابن القيم: المنَّ الذى أُنزل على بنى إسرائيل لم يكن هذا الحلو فقط، بل أشياءُ كثيرة مَنَّ الله عليهم بها من النبات الذى يُوجد عفواً من غير صنعة ولا عِلاج ولاحرث، فان المن مصدر بمعنى المفعول أى "ممنون" به فكل ما رزقه الله العبد عفوا بغير كسب منه ولا علاج، فهو مَنٌ محضٌ، وإن كانت سائر نعمه مَنّاً منه على عبده، فخصَّ منها ما لا كسب له فيه، ولا صُنعَ باسم "المنِّ"، فإنه مَنٌ بلا واسطة العبد، وجعل سبحانه قُوتَهم بالتِّيه "الكمأة"، وهى تقومُ مقام الخبز، وجعل أُدمهم "السَّلْوى"، وهو يقوم مقام اللَّحم، وجعل حَلواهم "الطلَّ" الذى ينزلُ على الأشجار يقوم لهم مقام الحلوى. فكَمُل عيشهُم. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المنِّ الذى أنزله الله على بنى إسرائيل " فجعلها من جملته، وفرداً من أفراده، والترنْجبين الذى يسقط على الأشجار نوع من المَنِّ، ثم غلب استعمال المَنِّ عليه عُرْفاً حادثاً.
(٢) قال العلماء: معناه أن بنى إسرائيل لما نزل الله عليهم المن والسلوى نهوا عن ادخارهما، فادخروا ففسد وأنتن، واستمر من ذلك الوقت.

<<  <   >  >>