للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الأمر بالتَّمَسُّكِ بالسُّنَّة والجَمَاعَة]

لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، كُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَلَاةُ. وإنَّه من يَعِشْ مِنْكُم بعدي فَسَيرى اختلافاً كَثيراً، فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتي (١) وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدينَ المهديِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ (٢)، خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً (٣) ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ، أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً (٤)، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً يَتَكادَمُونَ عَلَيْهِ تَكادُمَ الْحُمُرِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ (٥)، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ (٦)، فَعَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ جِهَادِكُمُ الرِّبَاطُ وَإِنَّ أَفْضَلَ رِبَاطِكُمْ عَسْقَلَانُ. أوصيكُمْ بتَقوى الله، والسَّمْعِ والطَّاعةِ، وإنْ تَأَمَّرَ عَليكُم عَبْدٌ، ولَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ (٧)، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ. يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ (٨)، فَمَنْ أَنْكَرَ، فَقَدْ بَرِئَ (٩)، وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ (١٠)، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ (١١). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟، قَالَ: لَا، مَا صَلَّوْا، ما أقاموا فيكم الصلاة، فَخَالِطُوهُمْ بِأَجْسَادِكُمْ وَزَايِلُوهُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَاشْهَدُوا عَلَى الْمُحْسِنِ بِأَنَّهُ مُحْسِنٌ، وَعَلَى الْمُسِيءِ بِأَنَّهُ مُسِيءٌ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وأَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ.

يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ (١٢)، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا، قَذَفُوهُ فِيهَا، هُمْ رِجَالٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ، إِنْ كَانَ للهِ خَلِيفَةٌ فِي الْأَرْضِ (١٣) فَالْزَمْ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ،


(١) السُنَّة هي: كل ما صدر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ مما يصلح أن يكون دليلاً لحكمٍ شرعي. والسُنَّة مع الكتاب (القرآن) في مرتبة واحدة من حيث الاعتبار والاحتجاج بهما على الأحكام الشرعية، مع أن الكتاب يمتاز عن السُنَّة بأن لفظه منزَّل من عند الله سبحانه، متعبَّدٌ بتلاوته، معجِزٌ للبشر أن يأتوا بمثله بخلافها. وقد روي عن عمران بن الحصين أنه كان جالساً ومعه أصحابه فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال له: أدن فدنا، فقال: "أرأيت لو وُكِلتَ أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تَجِدُ فيه صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً تقرأ في اثنتين. أرأيت لو وُكِلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تَجد الطواف سبعاً، والطواف بالصفا والمروة؟، ثم قال: أي قوم خذوا عنَّا، فإنَّكم والله إن لا تفعلوا لتضُلُّن". وقد بَلَغَ من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم أنْ كانوا يفعلون ما يفعل، ويتركون ما يترك دون أن يعلموا لذلك سبباً، أو يسألوه عن علَّته أو حكمته. وبلغ حرصهم على تتبعهم لأقواله وأعماله أن كان بعضهم يتناوبون ملازمة مجلسه يوماً بعد يوم، ثم يأتي بعضهم لبعض بما تعلموه.
(٢) النواجذ: الأضراس. كناية عن شدة التمسك بالشيء.
(٣) قَالَ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ: ثُمَّ قَالَ لِي سَفِينَةُ - رضي الله عنه -: أَمْسِكْ عَلَيْكَ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرًا وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتَّ سِنِينَ. قَالَ سَعِيدٌ: فَوَجَدْنَاهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً.
(٤) جاء في الحديث: "أَوَّلُ مَنْ يُبَدِّلُ سُنَّتِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ". قال الألباني: ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة، وجَعْلِه وراثةً. والله أعلم.
(٥) وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً، ولا يزال الناس بخير ينصرون على من ناوأهم عليه، إلى اثني عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة وكلهم من قريش).
قيل: المراد بالاجتماع: انقيادهم لبيعته، وقداجتمع الناس على أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد، ثم اجتمعوا على عبدالملك بن مروان، ثم أولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد: عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك لما مات عمه هشام، فولي نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ. وكانت الأمور في غالب أزمنة هؤلاء الاثني عشر منتظمة، وإن وجد في بعض مدتهم خلاف ذلك، فهو بالنسبة إلى الاستقامة نادر والله أعلم.
(٦) قد ينطبق ذلك على خلافة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله وعلى خلافة المهدي في آخر الزمان. ورَوَى أَحْمدُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «دَلَائِل النُّبُوَّة»: قَالَ حَبِيبُ بْنُ سَالِمٍ فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي صَحَابَتِهِ فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ فَقُلْتُ لَهُ إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ -يَعْنِي عُمَرَ- بَعْدَ الْمِلْكِ الْعَاضِّ وَالْجَبَرِيَّةِ فَأَدْخَلَ كِتَابِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسُرَّ بِهِ وَأَعْجَبَهُ.
(٧) يعني: يدعون لكم وتدعون لهم.
(٨) أي: تعرفون بعض أحوالهم وأقوالهم لموافقتها للشرع، وتنكرون بعضها لمخالفتها له، فمعنى (تعرفون): ترضون؛ لمقابلتها تنكرون.
(٩) أي: سلم من المداهنة والنفاق.
(١٠) أي: من أنكر بقلبه، وكره بقلبه فقد سلم من مشاركتهم في الوزر.
(١١) أي: من رضي بقلبه بفعلهم، وتابعهم في العمل، فهو الذي شاركهم في العصيان.
(١٢) يعني: ترى فيهم ما تعرفُه أنه من ديني، وترى فيهم ما تنكِرُ كونَهُ من ديني.
(١٣) يعني: خليفة من الله. وليس خليفة عن الله؛ لأن الله حي شاهد لا يغيب.

<<  <   >  >>