للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[نزول وحي القرآن عليه]

وقال عليه الصلاة والسلام: مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ (١)؛ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).


(١) يعني: (القرآن)، وهو المعجزة الباقية؛ لإثباته عجز البشر عن الإتيان بمثله أو بمثل بعضه، في ألفاظه ومعانيه.
وهذه الخصوصيّة جعلت القرآن أعظم الأدلّة على صدق النّبيّ صلى الله عليه وسلم في رسالته، والحجّة الباقية على النّاس إلى أن تقوم السّاعة. وقد قال الله عز وجلّ: (وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
فقد كان الله عزّ وجلّ يجري على أيدي رسله وأنبيائه ويسوق لهم من البراهين ما يدلّ على صدقهم أنّهم مبعوثون من عند الله، ممّا لا يقع مثله في العادة لغيرهم من البشر، وهو معجزاتهم، كعصا موسى، وإحياء عيسى للموتى، والإسراء والمعراج لنبيّنا صلى الله عليه وسلم، لكنّ تلك المعجزات كانت أدلّة لمن شهدها، ونصيب من لم يشهدها إنّما هو الخبر الواجب التّصديق، بخلاف القرآن، فإنّه المعجزة الباقية، الّتي لم تزل حيّة بين النّاس، لم يتبدّل ولم يتغيّر، ولن يكون ذلك في يوم من الدّهر.
وتحدّى الله عز وجلّ أرباب الفصاحة والبيان، بل جميع بني الإنسان، بل حتّى لو ظاهرهم عليه الجانّ، ولم يزل يتحدّى: أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بمثل بعضه، فما فعلوا، ولن يفعلوا.
كما قال جلّ وعلا: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)، وقال سبحانه: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).
تحدّاهم بأن يأتوا بأقصر سورة من مثله، على مثاله في النّظم والتّأليف والإحكام، وفي المعاني والدّلالات والأحكام، فعجزوا عن معارضته في كلّ ذلك، عن مماثلته بعباراتهم، أو مجاراته ببيانهم، أو مسابقته بقوانينهم وشرائعهم.
ذلك؛ لأنّه كلام ربّ العالمين تبارك وتعالى، وكلامه سبحانه من صفاته، وهو الّذي لا مثل له في ذاته ولا في صفاته، كما قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فكما لا مثل له سبحانه في سمعه، ولا مثل له في بصره، ولا مثل له في سائر صفاته، فكذلك لا مثل له في كلامه.
فهذه- والله- هي العلّة الّتي فارق بها كلامه سائر الكلام، وعجز لأجله الخلق عن معارضته، فليس كشعرهم ولا كنثرهم، ولا كقوانينهم وشرائعهم، مع أن حروفه من حروف كلامهم، ومفرداته من مفردات قاموسهم، فلم يجدوا له في ألسنتهم مع الفصاحة، ولا في عقولهم مع الرّجاحة، ما يمكنهم به أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه، فقد أبت قوانين الشّعر وأساليب النّثر ولوائح الأنظمة أن يقايس بها ويجري عليها.
(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ).
ويعسر أن تحدّ وجوه الإعجاز في القرآن العظيم، فكلّ شيء منه لا نظير له، فهو باهر في ألفاظه وأسلوبه، في تأليفه ونظمه، في بيانه وبلاغته، في تشريعه وحكمه الّتي حيّرت الألباب، في أنبائه وأخباره، في تاريخه وحفظه، في علومه الّتي لا تنقطع ولا تقف عند غاية. وقد أجمل وصفه وأحسنه من قال: «فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصّراط المستقيم، هو الّذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة؛ فإنّه تتلوه ألسنة لم تفتق بالعربيّة، بل ربّما تعسّر عليها قراءة سواه من الكلام العربيّ، أمّا هو فتنطلق به الألسنة مع عجمتها، فهو مُيَسَّر لِلذِّكْرِ، ولا يشبع منه العلماء، ولا تذهب لذّته بكثرة التكرار، بل هو في كل مرّة جديد، مهما تكرّرت تلاوته، ولا تنقضي عجائبه، هو الّذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتّى قالوا: "إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ"، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».
ومن الإعجاز القرآني:
الإعجاز اللّغويّ: وهو أبرز ما تحدّى به القرآن العرب في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو التّحدّي في أبرز خصائصهم، فمع أنّه بلسانهم، وأتى بما لا يخرج عن وجوه فصاحتهم وأساليب بيانهم، وهم يومئذ في الذّروة في ذلك نثراً ونظماً.
ومنه الإعجاز الإخباريّ: فيما تضمّنه القرآن من الأنباء، ومنها:
١ - الإخبار عن الغيب المطلق، كالخبر عن الله عزّ وجلّ وأسمائه وصفاته، والملائكة، وصفة الجنّة وصفة النّار.
٢ - الإخبار عن الأمور السّابقة، كالخبر عن بدء الخلق، وعن الأمم السّالفة.
٣ - الإخبار عمّا يكون في مستقبل الزّمان، كالإخبار عن الشّيء قبل وقوعه في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أو عمّا سيكون بعد ذلك.
٤ - الإخبار عمّا تكنّه النّفوس وتخفيه الضّمائر، ممّا لا يمكن أن يعلمه إلّا الله، ولا يصل إلى علم النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلّا بوحي الله.
ومنه الإعجاز التّشريعيّ: فيما أودع الله في كتابه من القوانين الّتي تشهد في استقامتها وعدلها وصلاحها لكلّ زمان أنّها من عند الله، وأن لا طاقة للخلق أن يوجدوا لها نظيراً، مهما بلغت العقول. ذلك أنّ التّشريع مبنيّ على تحقيق مصالح العباد في الدّارين، ولا يحيط بتلك المصالح أحد من خلق الله؛ لقصور العلم، والنّقص بالطّبع، لكنّ الله سبحانه هو الخالق، فهو أعلم بخلقه وحاجتهم وما يكون به صلاحهم وفسادهم، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
ومنه الإعجاز العلميّ: وذلك فيما بيّن الله في هذا الكتاب ودلّ عليه من الآيات في السّماوات والأرض والأنفس، ممّا لم يكن ليحيط به علم بشر في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، ثمّ يبقى النّاس يكتشفون أسراره في الكون، والقرآن قد سبق به منذ دهر بعيد تصريحاً وتلويحاً، كان يتلوه على النّاس نبيّ أمّيّ، لم يدرس علوم الفضاء ولا البيئة ولا البحار ولا طبقات الأرض ولا الأجنّة، لينبئ العالم أنّه رسول ربّ العالمين، وأنّ هذا القرآن من علم الله الّذي أحاط بكلّ شيء. وهو أكثر ما يُدخل الناس في الإسلام.
وسمّى الله تعالى القرآن العظيم بأسماء، ونعته بنعوت، منها: الكتاب، وكلام الله، والفرقان، والذّكر.
أما تسمية القرآن بالمصحف، فهي تسمية ظهرت بعد أن جُمع القرآن مكتوباً بين الدّفّتين. وجاءت من الصّحف الّتي جمع بعضها إلى بعض فأصبحت على هيئة الكتاب.
وأمّا ما ذكر الله عز وجلّ من نعوت وأوصاف كلامه المنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم فكثير، فهو: هدى، وشفاء، ورحمة، وموعظة، وذكرى، وبشرى، ونذير، وبيان، وروح، ونور، ومبين، ومفصّل، ومبارك، وبصائر، وكريم، وعليّ، وحكيم، وعزيز، ومجيد، وقيّم، وأحسن الحديث، وغير ذلك من الصّفات الدّالّة على عظمته ومنزلته ورفيع قدره.
والصحابة الذين كان يتنزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعلمهم ومشاهدتهم، كان لهم الأسوة الحسنة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإسراع إلى حفظ القرآن واستظهار آياته، وقد ساعدهم نزول القرآن منجّما على الحفظ. وعلموا ما كان من وقوع النسخ في القرآن، قال تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} وقال: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر، بل أكثرهم لا يعلمون} وقال: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}. وهو ثلاثة أنواع: أحدها: ما نسخ حكمه وتلاوته، كعشر رضعات. والثاني: ما نسخت تلاوته دون حكمه، كخمس رضعات، والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما. والثالث: ما نسخ حكمه، وبقيت تلاوته، وهذا هو الأكثر، ومنه قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم. . الآية} والله أعلم.
وعلم قراء الصحابة أوجه القراءات التي نزل بها القرآن وقال فيها عليه الصلاة والسلام: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، على أي حرف قرأتم فقد أصبتم".
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات (لهجات) العرب في المعنى الواحد، على معنى أنه حيث تختلف لغات (لهجات) العرب في التعبير عن معنًى من المعاني يأتي القرآن مُنَزَّلًا بألفاظ على قدر هذه اللغات لهذا المعنى الواحد، وحيث لا يكون هناك اختلاف فإنه يأتي بلفظ واحد أو أكثر. نحو: أَقْبِل وتعال، وهلم، وعَجِّل، وأسرع، فهي ألفاظ مختلفة لمعنى واحد، وإليه ذهب أكثر العلماء ويدل له ما جاء في حديث أبي بكرة: "أن جبريل قال: يا محمد، اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقال: على حرفين، حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب، كقولك: هلم وتعالَ وأَقْبِل واذهب وأسرع وعَجِّل. وقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل فقال: يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط، قال: فمرهم فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف.
ومن حِكَم نزول القرآن على سبعة أحرف:
١ - تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين، لكل قبيل منهم لسان.
٢ - إعجاز القرآن للفطرة اللغوية عند العرب، حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري، وأنه لا يمكن مضاهاته بأي لسان.
٣ - إعجاز القرآن في معانيه وأحكامه -فإن تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات يتهيأ معه استنباط الأحكام التي تجعل القرآن ملائمًا لكل عصر- ولذا احتج الفقهاء في الاستنباط والاجتهاد بقراءات الأحرف السبعة.
وقد قتل يوم اليمامة سبعون من القرّاء، وقتل في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببئر معونة مثل هذا العدد من القرّاء الذين عرضوه على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واتّصلت بنا أسانيدهم، وأما من جمعه منهم ولم يتصل بنا سندهم فكثير.
والاعتماد على الحفظ في النقل من خصائص هذه الأمة، يقول ابن الجوزي شيخ القرّاء في عصره: إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف- الكتب- أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة. وقد ورد في صفة هذه الأمة: أناجيلهم صدورهم، بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتاب، ولا يقرءونه كلّه إلا نظراً لا عن ظهر قلب.
وقد أرسل أبو بكر - رضي الله عنه - إلى زيد بن ثابت - رضي الله عنه - بعد مقتل أهل اليمامة وعنده عمر - رضي الله عنه - فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟، فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر - قال زيد بن ثابت: وعمر عنده جالس لا يتكلم - فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتبع القرآن فاجمعه، قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، فقلت لهما: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟، فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب (وهو جريد من النخل) وصدور الرجال، ففقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها، وهي قوله: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - " الذي جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادته شهادة رجلين. وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما.
ثم كان في عهد عثمان رضي الله عنه تدوين المصحف واعتماد النسخة المدونة وإحراق ما سواها من النسخ.
فقد قدم حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق - فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان.
واستشار عثمان واستفتى الصحابة، وقال: ما تقولون في هذه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفراً؟
قلنا: فما ترى؟
قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة، ولا يكون اختلاف.
قلنا: فنعم ما رأيت.
قال- يعني علي رضي الله عنه-: فقيل: أي الناس أفصح؟ وأي الناس أقرأ؟
قالوا: أفصح الناس سعيد بن العاص، وأقرأهم زيد بن ثابت.
فقال: ليكتب أحدهما، ويملي الآخر. ففعلا، وجمع الناس على مصحف قال علي: والله لو وُلِّيتُ لفعلتُ مثل الذي فعل.
وقد عهد عثمان اعتماد النسخة الموحدة من المصحف إلى أربعة من الصحابة هم: زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقال لهم: "اذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أُنزل بلسانهم". ففعلوا، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق. منعاً لاختلاف القراءات والزيادة والنقص في كتاب الله تعالى.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل إلا عن ملأ منا جميعاً.
أما عن ترتيب الآيات والسور فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في صلاته في الليل بسورة النساء قبل آل عمران، وفيه حجة لمن يقول إن ترتيب السور اجتهاد وليس بتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول جمهور العلماء، واختاره القاضي الباقلاني قال: وترتيب السور ليس بواجب في التلاوة ولا في الصلاة ولا في الدرس.
قال ابن بطال: لا نعلم أحداً قال بوجوب ترتيب السور في القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها، بل يجوز أن يقرأ الكهف قبل البقرة، والحج قبل الكهف مثلاً، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكوساً، فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها، وكان جماعة يصنعون ذلك في القصيدة من الشعر مبالغة في حفظها، وتذليلاً للسانه في سردها، فمنع السلف ذلك في القرآن، فهو حرام فيه.
أما عن سبب نزول بعض الآيات والسور قبل بعض؛ فقد أشارت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - إلى شيء من الحكمة الإلهية في أسبقية النزول، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك، أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: " ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا لا ندعها " وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف.
أما عن ترتيب الآيات في كل سورة؛ فلا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف توقيف من الله تعالى، وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها - صلى الله عليه وسلم.
وكان حفظ القرآن وتدوينه في مصحف واحد بالرسم العثماني مما اتفق عليه كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

<<  <   >  >>