للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[ذهاب موسى لميقات ربه]

وَمَضَى مُوسَى فَأَنْزَلَهُمْ مَنْزِلا، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَطِيعُوا هَارُونَ، فَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُهُ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي، وَأَجَّلَهُمْ ثَلاثِينَ يَوْمًا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا أَتَى رَبَّهُ، أَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي ثَلاثِينَ، وَقَدْ صَامَهُنَّ، لَيْلَهُنَّ وَنَهَارَهُنَّ، كَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ رَبَّهُ وَيَخْرُجَ مِنْ فَمِهِ رِيحَ فَمِ الصَّائِمِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الأَرْضِ فَمَضَغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَ أَتَاهُ: أَفَطَرْتَ؟ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِالَّذِي كَانَ - قَالَ: رَبِّ كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلا وَفَمِي طَيِّبُ الرِّيحِ، قَالَ: أَوَمَا عَلِمْتَ يَا مُوسَى أَنَّ رِيحَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدِي مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؟، ارْجِعْ حَتَّى تَصُومَ عَشْرًا، ثُمَّ ائْتِنِي، فَفَعَلَ مُوسَى مَا أُمِرَ بِهِ.

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِالْمَجِيءِ فِيهِ، {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، إِلَّا أَنَّهُ أَسْمَعَهُ الْخِطَابَ، فَنَادَاهُ وَنَاجَاهُ، وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ (١)، فَلَمَّا أُعْطِيَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ الْعَلِيَّةَ وَالْمَرْتَبَةَ السَّنِيَّةَ، وَسَمِعَ الْخِطَابَ، سَأَلَ رَفْعَ الْحِجَابِ، فَقَالَ لِلْعَظِيمِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ: {رَبِّي أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}، قَالَ: {لَنْ تَرَانِي}، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى لموسى أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ تَجَلِّيهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ لِأَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي هُوَ أَقْوَى وَأَكْبَرُ ذَاتًا، وَأَشَدُّ ثَبَاتًا مِنَ الْإِنْسَانِ، لَا يَثْبُتُ عِنْدَ التَّجَلِّي مِنَ الرَّحْمَنِ، فقال: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} فَإِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْكَ وَأَشَدُّ خَلْقًا، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فَنَظَرَ إِلَى الْجَبَلِ لَا يَتَمَالَكُ، وَأَقْبَلَ الْجَبَلُ فَدُكَّ عَلَى أَوَّلِهِ، وَرَأَى مُوسَى مَا يَصْنَعُ الْجَبَلُ، فَخَرَّ صَعِقَاً مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، {فَلَمَّا أَفَاقَ} قَالَ: سُبْحَانَكَ، تَنْزِيهٌ وَتَعْظِيمٌ وَإِجْلَالٌ للهِ أَنْ يَرَاهُ بِعَظَمَتِهِ أَحَدٌ، {تُبْتُ إِلَيْكَ} فَلَسْتُ أَسْأَلُ بَعْدَ هَذَا الرُّؤْيَةَ، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} أَنَّهُ لَا يَرَاكَ حَيٌّ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ. ذَاكَ نُورُهُ الَّذِي هُوَ نُورُهُ إِذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ «حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ».


(١) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في قوله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَالَ: «سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ حِينَ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ».

<<  <   >  >>