ثم إن بني إسرائيل لَمَّا أَنْهَكَتْهُمُ الْحُرُوبُ، وَقَهْرَهُمُ الْأَعْدَاءُ، سَأَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ (١) وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُنَصِّبَ لَهُمْ مَلِكًا يَكُونُونَ تَحْتَ طَاعَتِهِ؛ لِيُقَاتِلُوا مِنْ وَرَائِهِ وَمَعَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأَعْدَاءَ.
فخشي عليهم ألا يَفُوا بما وعَدوا من القيام بالجهاد، فأصروا وأجابوا بأنَّه لا شيء يحولُ بينهم وبين الجهاد في سبيل الله، وخاصة أنهم أُخرجوا من ديارهم، وسُبي أبناؤهم. فلمَّا فرَض الله عليهم القتالَ؛ لمْ يفوا بالوعد! بل أدْبروا ناكلينَ عن الجهاد إلَّا عددًا قليلًا منهم، والله تعالى يعلم مَن ظلم منهم، وأخلف وعده، وسيجازيه على ظلمه. ثمَّ أعلمهم نبيُّهم أنَّ الله قد أجابهم إلى ما طلَبوا، وعيَّن لهم طالوتَ ملِكًا عليهم، وكان طالوت رجلًا من عامَّتهم، لا ينتمي إلى سِبط ملوكِ بني إسرائيل، فلم يُسلِّموا لما اختاره الله لهم! بل اعترضوا على ذلك فقالوا: كيف يكون ملِكًا علينا وهو دُوننا في الشَّرف، وهو مع ذلك ليس من أصحاب الأموال، كما هو حال الملوك؟! فأخبرهم نبيُّهم عليه السلام عند ذلك أنَّ الله هو الذي اختاره لهم، واختصَّه مِن بينهم، وأعطاه زيادةً في العِلم، وطولَ قامةٍ، وقوَّةً في الجسد، ثم إنَّ المُلك لله وحْده يؤتيه مَن يشاء، وهو سبحانه واسعُ الفضل والكرم، لا يخصُّ بكرمه شريفًا عن وضيع، أو غنيًّا عن فقير، عليمٌ بكلِّ شيء، ومن ذلك عِلمُه بمَن يَصْلُح للمُلك من غيره.
وقال لهم نبيُّهم أيضًا: إنَّ العلَامةَ الدالَّة على صحَّة تنصيبِ طالوت ملكًا عليهم هي أن يُردَّ إليهم التابوتُ -الذي سُلِب منهم- حاويًا ما يُهدِّئ نفوسهم فتطمئنَّ به قلوبهم، وممَّا يحويه أشياء تبقَّت من تَرِكة موسى وهارون عليهما السلام، يحمل هذا التابوتَ إليهم الملائكةُ عليهم السَّلام، وإنَّ في هذا الأمر لعلامةً واضحة لكم على اختيار الله لطالوت؛ ليكونَ ملِكًا عليكم، إنْ كنتم مؤمنين بالله، ومصدِّقين لما أخبرتكم به. فلمَّا أَذعنوا أخيرًا لِمُلْك طالوت عليهم بعد أنْ جاءهم التابوت؛ انضمُّوا إليه لقتال عدوِّهم.