للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[وضع الحجر الأسود في مكانه]

وفي عام (١٨ ق هـ) أعادت قريش بناء الكعبة في الجاهلية بعد أن تهدم جزء منها من سَيْلٌ عَرِمٌ انْحَدَرَ إِلَى البَيْتِ الحَرَامِ، فَأَوْشَكَتِ الكَعْبَةُ مِنْهُ عَلَى الِانْهِيَارِ، وكَانَ قَدْ أَصَابَهَا مِنْ قَبْلُ حَرِيقٌ بِسَبَبِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تُجَمِّرُهَا، فَهَدَمَتْهَا قُرَيْشٌ وقَدِ اتَّفَقوا عَلَى أَنْ لَا يُدْخِلُوا في بِنَاءِ الكَعْبَةِ مِنْ كَسْبِهِمْ إِلَّا طَيِّبًا، فَلَا يُدْخِلُوا فِيهَا مَهْرَ بغِيٍّ ولا بَيع رِبًا، وَلَا مَظْلَمَةَ أَحَدٍ مِنَ النَّاس، وَجَعَلُوا يَبْنُونَهَا بِحِجَارَةِ الْوَادِي وقدْ شَارَكَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَ أعْمَامِهِ في البِنَاءِ، ونَقْلِ الحِجَارَةِ، وكَانَ عُمُرُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذْ ذَاكَ خَمْسًا وثَلَاثِينَ سَنَةً، وبلغوا موضع الحجر الأسود وما يرى الحجر أحد، فإذا هو وسط حجارتهم مثل رأس الرجل يكاد يتراءى منه وجه الرجل، فقال بطن من قريش: نحن نضعه. وقال آخرون: نحن نضعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حكماً. قالوا: أول رجل يطلع من الفج (١)، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: أتاكم الأمين. وكانوا يسمونه الأمين، ولم يجربوا عليه كذبة قط. فقالوا له، فوضعه في ثوب ثم دعا بطونهم (٢) فأخذوا بنواحيه معه، فوضعه هو صلى الله عليه وسلم بيديه.

لكنهم لما قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ وَالْخَشَبُ؛ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فلم يصلوا بركنين إلى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، وأنشؤوا الحِجْر (٣) مكان تتمة البنيان، وجعلوا بَابَ الكعبة مُرْتَفِعًا لَا يُصْعَدُ إِلَيْهِ إِلَّا بِسُلَّمٍ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، تَعَزُّزًا أَنْ لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَرَادُوا، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا هُوَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا يَدَعُونَهُ يَرْتَقِي، حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَ دَفَعُوهُ فَسَقَطَ (٤).


(١) وفي رواية: أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ. ويسمى اليوم: باب السلام. والفج: الطريق الواسع.
(٢) البطن: الجماعة من الأقارب، والبطن دون القبيلة، والفخذ دون البطن.
(٣) وسُمِّيَ بذلك لأنَّهُ حُجِرَ، أي اقْتُطِعَ مِنَ الكَعْبَةِ. و لا يَصِحُّ الطَّوَافُ إلا مِنْ ورائِهِ.
(٤) قالت عائشة - رضي الله عنها -: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فقلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا أدخل البيت؟، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فأدخلني الحجر، فقال: إذا أردت دخول البيت، فصلي هاهنا، فإنما هو قطعة من البيت، فقلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن قومك لما بنوا الكعبة، قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ وَالْخَشَبُ، فاقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فأخرجوه من البيت. فقلت: فما شأن بابه مرتفعاً، لا يصعد إليه إلا بسلم؟، قال: " فعل ذلك قومك لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا هُوَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا يَدَعُونَهُ يَرْتَقِي، حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَ دَفَعُوهُ فَسَقَطَ. فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم؟، فقال: " لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية بِالشِّرْكِ بِالكُفْرِ لَفَعَلْتُ، فأخاف أن تنكر (تَنْفِرَ) قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ فِي البَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّي عَلَى بِنَائِهِ؛ لأمرت بالبيت فهدم، ثم لبنيته على أساس إبراهيم - عليه السلام - وأَعَدْتُ مَا تَرَكُوا مِنْهُ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ (وفي رواية خَمْسَ أَذْرُعٍ) مِنَ الْحِجْرِ فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ. وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ فِي الْأَرْضِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ وَبَابٌ خَلْفًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، ولأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ"، فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ. وقال لها: إِذَا أَرَدْتِ دُخُولَ الْبَيْتِ فَصَلِّي هَا هُنَا، صَلِّي فِي الحِجْرِ، فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ البَيْتِ. قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ، إِلَاّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. وَابْنُ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ الْحِجْرُ مِنَ الْبَيْتِ جَمِيعَ الْحِجْرِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بَعْضَهُ عَلَى مَا خَبَّرَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَعْضَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ لَا جَمِيعَهُ. قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ، وَبَنَاهُ، وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً، كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ مُتَلَاحِكَةً.

<<  <   >  >>