للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[يونس عليه السلام]

وبَعَثَ اللَّهُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (١)، إِلَى أَهْلِ نِينَوَى؛ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ وزيادة، فَكَذَّبُوهُ وَتَمَرَّدُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَنْ أَمْرِهُمْ، خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهَرِهِمْ، وَوَعَدَهُمْ حُلُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْهِمْ وَتَحَقَّقُوا نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ، قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَة وَالْإِنَابَةَ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَى نَبِيِّهِمْ، فَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ بَهِيمَةٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصَرَخُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَتَمَسْكَنُوا لَدَيْهِ، وَبَكَى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَالْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ، وَالْأُمَّهَاتُ، وَجَأَرَتِ الْأَنْعَامُ وَالدَّوَابُّ وَالْمَوَاشِي، وَرَغَتِ الْإِبِلُ وَفُصْلَانُهَا، وَخَارَتِ الْبَقَرُ وَأَوْلَادُهَا، وَثَغَتِ الْغَنَمُ وَحُمْلَانُهَا، وَكَانَتْ سَاعَةً عَظِيمَةً هَائِلَةً، فَكَشَفَ اللَّهُ الْعَظِيمُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي كَانَ قَدِ اتَّصَلَ بِهِمْ بِسَبَبِهِ. وَلَمَّا ذَهَبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُغَاضِبًا بِسَبَبِ قَوْمِهِ {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أَيْ؛ نُضَيِّقَ (٢). رَكِبَ سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ، فَلَجَّتْ بِهِمْ وَاضْطَرَبَتْ، وَمَاجَتْ بِهِمْ وَثَقُلَتْ بِمَا فِيهَا، وَكَادُوا يَغْرَقُونَ، فَاشْتَوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يَقْتَرِعُوا، فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَوْهُ مِنَ السَّفِينَةِ؛ لِيَتَخَفَّفُوا مِنْهُ، فَلَمَّا اقْتَرَعُوا وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ يُونُسَ، فَلَمْ يَسْمَحُوا بِهِ، فَأَعَادُوهَا ثَانِيَةً فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَشَمَّرَ لِيَخْلَعَ ثِيَابَهُ وَيُلْقِيَ بِنَفْسِهِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَعَادُوا الْقُرْعَةَ ثَالِثَةً فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، ولَمَّا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، أُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ، وَبَعَثَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، حُوتًا عَظِيمًا مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ فَالْتَقَمَهُ، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ -ظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ-: {لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين}. فلَوْلَا أَنَّهُ سَبَّحَ اللَّهَ هُنَالِكَ، وَقَالَ مَا قَالَ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ، وَالِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِالْخُضُوعِ، وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، لَلَبِثَ هُنَالِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَبُعِثَ مِنْ جَوْفِ ذَلِكَ الْحُوتِ. وكَانَ مِنْ قَبْلِ أَخْذِ الْحُوتِ لَهُ مِنَ الْمُسَبِّحِينِ أَيِ؛ الْمُطِيعِينَ الْمُصَلِّينَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا.


(١) هو يُونُس بْن مَتَى، ومتى أبوه، ويقال أنه من نسل بنيامين بْن يعقوب.
(٢) وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نُقَدِّرُ، مِنَ التَّقْدِيرِ.

<<  <   >  >>