للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسيح عيسى بن مريم عليه السلام]

ووُلِد المسيح عيسى ابن مريم الصدِّيقة بمعجزة إلهية؛ فقد خُلق بكلمة من الله، من غير أب، حيث تنحّت مريم عليها السلام عن أهلها (١)، وانفردت بمكان على جهة الشرق منهم. (٢) فاتخذت لنفسها من دون قومها ساترًا يسترها حتى لا يروها حال عبادتها لربها، فبعث الله إليها جبريل عليه السلام، فتمثل لها في صورة إنسان سَوِيّ الخِلقة، فخافت أنه يريدها بسوء. فلما رأته في صورة إنسان سَوِيّ الخَلْق يتّجه إليها قالت: إني أستجير بالرحمن منك أن ينالني منك سوء -يا هذا- إن كنت تقيًّا تخاف الله. فقال لها: أنا لست بشرًا، إنما أنا رسول من ربك أرسلني إليك لأهب لك ولدًا طيّبًا طاهرًا. قالت مريم متعجبة: كيف يكون لي ولد ولم يقربني زوج ولا غيره، ولست زانية حتى يكون لي ولد؟! فقال لها جبريل: الأمر كما ذكرت من أنك لم يمسسك زوج ولا غيره ولم تكوني زانية، لكن ربك سبحانه قال أن الخلق من غير أب هيّن عليه، وليكون الولد الموهوب لك علامة للناس على قدرة الله، ورحمة منه لك ولمن آمن به، وكان خَلْق ولدك هذا قضاء من الله مقدّرًا، مكتوبًا في اللوح المحفوظ. فَأَخَذَ بِكُمِّهَا فَنَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا وَكَانَ مَشْقُوقًا مِنْ قُدَّامِهَا فَدَخَلَتِ النَّفْخَةُ صَدْرَهَا فَحَمَلَتْ به بعد نفخ الملَك.

فَأَتَتْهَا أُخْتُهَا امْرَأَةُ زَكَرِيَّا (٣) لَيْلَةً تَزُورُهَا فَلَمَّا فَتَحَتْ لَهَا الْبَابَ الْتَزَمَتْهَا فَقَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا: يَا مَرْيَمُ أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى؟ فَقَالَتْ مَرْيَمُ أَيْضًا: أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى؟، فَقَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا: فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِلَّذِي فِي بَطْنِكِ (٤).

فَوَلَدَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا يَحْيَى (٥)، وَلَمَّا بَلَغَ أَنْ تَضَعَ مَرْيَمُ خَرَجَتْ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ فتنحت بحملها إلى مكان بعيد عن الناس. فألجأها المخاض إلى ساق نخلة، فقالت -اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ-: يا ليتني متّ قبل هذا اليوم، وكنت شيئًا لا يُذْكَر حتى لا يُظَن بي السوء. فناداها جبريل (٦) من تحتها في أسفل الوادي: لا تحزني، قد جعل ربك تحتك جدول ماءٍ تشربين منه.


(١) روي أنها خَرَجَتْ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ بِحَيْضٍ أَصَابَهَا فَلَمَّا طَهُرَتْ إِذْ هِيَ بِرَجُلٍ مَعَهَا {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
(٢) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً، قَوْلُ الله: انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، وَاتَّخِذُوا مِيلادَ عِيسَى قِبْلَةً". ولا يعارض هذا ما ذكره غيره: أن الملك قسطنطين أمر النصارى بجعل القبلة لمشرق الشمس لما أفسد على النصارى دينهم.
(٣) قال ابن كثير: جاء فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: «فَمَرَرْتُ بِابْنَيِ الْخَالَةِ: يَحْيَى وَعِيسَى» وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ; فَإِنَّ أُمَّ يَحْيَى أَشْيَاعُ بِنْتُ عِمْرَانَ أُخْتُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ.
وأيضاً جاء التصريح أنها (أختها) فيما راوه الحاكم في المستدرك على الصحيحين: (فَأَتَتْهَا أُخْتُهَا امْرَأَةُ زَكَرِيَّا) وقال: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وقال الذهبي: على شرط مسلم.
خلافاً لقول بعض المؤرخين أن أشياع هي خالة مريم وليست خالة عيسى.
(٤) قَالَ مَالِكٌ: أَرَاهُ لِفَضْلِ عِيسَى عَلَى يَحْيَى.
(٥) قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وُلِدَ يَحْيَى قَبْلَ عِيسَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.
(٦) وقيل أن الذي ناداها ابنها عيسى من تحت قدميها، وعلمت بذلك أنه يتكلم، وكان ذلك سبباً لإشارتها إليه حين سألها قومها عن سبب حملها.

<<  <   >  >>