للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الإسلام محفوظ بعلماء مجدِّدِين]

ويَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَأوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ (١).

وإِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا.


(١) وقد اهتمَّ الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحلة في طلب العلم لما فرقتهم الفتوحات في الأمصار، فرحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أُنيس في الشام واستغرق شهراً ليسمع منه حديثاً واحداً لم يبق أحدٌ يحفظه غير ابن أنيس. ورحل أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر بمصر، فلما لقيه قال: حدِّثنا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المسلم لم يبق أحدٌ سمعه غيري وغيرك، فلما حدَّثه ركب أبو أيوب راحلته وانصرف عائداً إلى المدينة ولم يحل رحله.
ثم لما تتابعت الفتن والبدع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وجيل الصحابة رضوان الله عليهم وظهرت بدعة القول بالقدر، ثم التجهُّم والرفض فالاعتزال وغيرها؛ سلكت الأجيال التالية لجيل الصحابة الأخيار من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم من أهل القرون المفضَّلة طرقاً لحفظ السُّنَّة والعناية بها تمثلت في: العناية بحفظها، والسؤال عن الإسناد، والبحث في أحوال الرجال ونقلة الأخبار. فنتج عن ذلك (علم الرجال والإسناد) الذى أصبح ميزة هذه الأمَّة المسلمة عن غيرها من الأمم. وعلى أثره كانت الرحلة في طلب الحديث وكان تدوين السُّنَّة الذي بدأ بصحفٍ وأجزاء ثم تطور إلى مصنَّفات مبوَّبة ومرتَّبة إما على الأبواب كصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، وسنن أبي داود، وسنن ابن ماجة والموطأ وغيرها، وإما على المسانيد كمسند أحمد وغيره.
ولم يكن هناك خلاف بين أحد من السلف في القرون الثلاثة المفضلة في وجوب العمل بالسُّنَّة دون تفريق بين ما سمِّي فيما بعد بخبر الآحاد وما سمِّي بالمتواتر، ولا ما يسمَّى بأصول الدين وفروعه - وكلها تقسيمات محدثة مبتدعة -. ولما بزغت بعض رؤوس الفتنة في عصور السلف الأولى وردّت السُّنَّة أو بعضها هبوا جميعاً في وجوههم، وحذَّروا منهم، وكان أيوب السختيانى يقول: "إذا حدَّثت الرجل بالسُّنَّة فقال: دعنا من هذا وحدثنا بالقرآن، فاعلم أنه ضالٌّ مضلٌّ".
ثم اتسع العلماء في كتابة السنّة في عصر ما بعد التابعين، وعوَّلوا على تدوينها في الصحف؛ لأن الروايات انتشرت والمسانيد طالت، وأسماء الرجال وكناهم وأنسابهم كثرت، والعبارات بالألفاظ اختلفت، فعجزت القلوب عن حفظ كل ذلك، فانتشر تدوين السنّة وصار علم السنّة أكثر ثباتاً وحفظاً وتدويناً. ووفق الله لها حفاظاً عارفين، وجهابذة عالمين، ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فتنوعوا في تصنيفها وتفننوا في تدوينها على أنحاء كثيرة حرصاً على حفظها وخوفاً من إضاعتها، وكان من أحسنها تصنيفاً وأجودها تأليفاً وأكثرها صواباً وأقلها خطأً، وأعمها نفعاً، وأعودها فائدة وأعظمها بركة، وأيسرها مؤونة، وأحسنها قبولاً، عند الموافق والمخالف، وأجُّلها موضعاً عند الخاصة والعامة: "صحيح البخاري"، ثم "صحيح مسلم"، ثم بعدهما كتاب "السنن" لأبي داود، ثم كتاب"الجامع" للترمذي، ثم كتاب "السنن" للنسائي، ثم كتاب "السنن" لابن ماجه القزويني، وغيرها.

<<  <   >  >>