للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[قصة الهجرة]

ثم أُذِنَ للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك، أو يقتلوك، أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين}. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: رَأَيْتُ فِي المَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ (١) مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي (٢) إِلَى أَنَّهَا اليَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ، أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى (٣)، يَقُولُونَ: يَثْرِبَ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ (٤)، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ (٥) خَبَثَ الْحَدِيدِ.

قالت عائشة - رضي الله عنها -: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً قبل الحبشة، حتى إذا بلغ بَرْكِ الْغِمَادِ (٦)، لقيه ابْنُ الدَّغِنَةِ، وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟، فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي. قال ابن الدغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فارجع فاعبد ربك ببلدك، وأنا لك جار، فرجع، وارتحل معه ابْنُ الدَّغِنَةِ، فطاف ابْنُ الدَّغِنَةِ عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابْنُ الدَّغِنَةِ لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه - وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن - فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فقدم عليهم،


(١) أي: أمرني ربي بالهجرة.
(٢) أي: ظني واعتقادي.
(٣) أي: تغلبهم، وكنى بالأكل عن الغلبة، لأن الآكل غالب على المأكول. أي: يفتح أهلها القرى، فيأكلون أموالهم، ويسبون ذراريهم.
(٤) أي: أن بعض المنافقين يسميها يثرب، واسمها الذي يليق بها المدينة، وفهم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب، وقالوا: ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين.
(٥) الكير: قربة من جلد أو نحوه يستخدمها الحداد وغيره للنفخ في النار لإذكائها.
(٦) (برك الغماد) -بكسر الباء وفتحها وإسكان الراء- في أقاصي هجر، والغماد بضم الغين وكسرها.

<<  <   >  >>