وَعُلِمَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ؛ فتَبَيَّنَتِ الْجِنُّ -وَالْإِنْسُ أَيْضًا- أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، كَمَا كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ وَيُوهِمُونَ النَّاسَ ذلك؛ إذ لو كانوا يعلمونه لما مكثوا في العذاب المذلّ لهم، وهو ما كانوا عليه من الأعمال الشاقة التي يعملونها لسليمان عليه السلام ظنًّا منهم أنه حيٌّ يراقبهم أو أنه في غفوة أو في سِنَةٍ من النوم.
وإنَّ اليهودَ لما نبذوا كتاب الله تعالى، وانحرفوا عن عبادة الله وحده، ابتلوا بعبادة الشياطين والتقرب إليهم بالكفر وتعلم السحر منهم، واتبعوا ما تدعيه الشياطين التي كفرت وعَلَّمت الناسَ السحرَ وادّعت أن سليمان كان ساحراً وأن ملكه قام على السحر، والحقيقة أن سليمان -عليه السلام- لم يكن ساحراً ولم يكفر، بل كان نبياً صالحاً آتاه الله ملكاً عظيماً، ولكن الشياطين هم الذين كفروا بتعلّم وتعليم الناس السحر (١). كما ادعى اليهود كذلك أن سليمان بنى هيكلاً مزعوماً، وإنما الذي بناه سليمان هو مسجد بيت المقدس -كما تقدم-.
(١) قال الله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ). وقيل عن (هاروت وماروت): إنهما ملكان أنزلهما الله، تشكلا للناس؛ ليتعلموا منهما السحر حتى تكشف أسرار السحر التي كان يعملها السحرة، فأراد الله تكذيبهم بواسطتهما، وحتى يعلم الناس أن معجزات الأنبياء هي آيات من الله لا يستطيع الناس الإتيان بمثلها، أما السحر فهو تخييل وعلم يتعلم بعد أن يكفر صاحبه ويتعلمه من الشياطين. وقيل: إنّ هاروت وماروت رجلان تظاهرا بالصلاح ببابل، كانا يعلمان الناس السحر، وظن الناس أنهما ملكان نزلا من السماء؛ لما رأوه فيهما من التقوى، وبلغ مكر هذين الرجلين حين رأيا حسن اعتقاد الناس بهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما: "إنما نحن فتنة فلا تكفر"، يقولان ذلك لإيهام الناس أن علمهما إلهي، وأنهما لا يقصدان إلا الخير، كما يفعل ذلك كثير من الدجالين في سائر الأزمان، وسميا ملَكين (بفتح اللام) لتلقيب الناس لهما بذلك، وفي أول الآية بيان أن الذين يعلّمون الناس السحر إنما هم شياطين، والله أعلم.