للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَخَصَفَ نَعْلَهُ بِيَدِهِ وَرَقَّعَ ثَوْبَهُ بِيَدِهِ، وَرَقَّعَ دَلْوَهُ وَحَلَبَ شَاتَهُ وَفَلَّى ثَوْبَهُ وَخَدَمَ أَهْلَهُ وَنَفْسَهُ، وَحَمَلَ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَرَبَطَ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنَ الْجُوعِ تَارَةً وَشَبِعَ تَارَةً، وَأَضَافَ وَأُضِيفَ، وَاحْتَجَمَ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ وَعَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ، وَاحْتَجَمَ فِي الْأَخْدَعَيْنِ (١) وَالْكَاهِلِ، وَتَدَاوَى وَكَوَى وَلَمْ يَكْتَوِ، وَرَقَى وَلَمْ يَسْتَرْقِ، وَحَمَى الْمَرِيضَ مِمَّا يُؤْذِيهِ.

وجعل الله بعثته رحمة للعالمين، ومَا خَاطَبَهُ فِي كِتَابِهِ إِلَّا بِالْكِنَايَةِ الَّتِي هِيَ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ الَّتِي لَا أَجَلَّ مِنْهَا فَخْرًا، ونهى الناس أَنْ يُخَاطِبُوه بِاسْمِهِ، وندبهم إلى تكنيته، ودافع الله عنه فبرأه في كتابه من كل ما رماه به الكفار من السحر والكهانة والجنون، وزكاه بأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمر الناس بالتأسي به، وفرض طاعته، وجعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وجعل أزواجه أمهات للمؤمنين لا ينكحهن أحد بعده، وقرن الله اسمه باسمه تعالى عند ذكر طاعته وأحكامه، وأقسم الله بحياته، وأفرده بسيادة ولد آدم في القيامة، وحفظه من التدين بدين الجاهلية، ومن تعريهم، ومن لهوهم، وحرست السماء من استراق السمع لثبوت بعثته وعلو دعوته (٢)، وأسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به إلى السماء، ورأى من آيات ربه الكبرى، وما زاغ بصره وما طغى، وعاد متواضعاً حريصاً على أمته مشفقاً عليها بالمؤمنين رؤوف رحيم.

وانشق الْقَمَرُ بِدُعَائِه فِلْقَتَيْنِ، وصبر على أذى المشركين وعنادهم بعدما رأوا الآيات والمعجزات، واستمع له نفر من الجن فآمنوا به، وعرض نفسه على القبائل ليبلغ دين الله، وأخبر بالمعجزات الغيبية وانتصار الروم على الفرس في بضع سنين، ولما تآمر الكفار على قتله حجبه الله عنهم فلم يروه وأنجاه الله، وهاجر إلى المدينة، فبوركت غنم مر بها في طريقه، ونصره الله في الغار وحماه من المشركين وأنزل عليه سكينته وأيده بجنود من عنده، وصد عنه لحاق سراقة بن مالك، وصبر على مشقة الدعوة وجاهد المشركين، وشكت إليه بعض البهائم فنصرها وأوصى بها أصحابها،


(١) الأَخْدَعَانِ: هما عِرْقان فِي جَانِبي الْعُنُق. وَالْكَاهِلُ: هُوَ مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ.
(٢) كَانَ الجِنُّ يَسْتَمِعُونَ الوَحْيَ فيَسْتَمِعُونَ الكَلِمَةَ فَيَزِيدُونَ فِيهَا عَشْرًا، فَيَكُونُ مَا سَمِعُوا حَقًّا، ومَا زَادُوهُ بَاطِلًا، وَكَانَتِ النُّجُومُ لا يُرْمَى بهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ أحَدُهُمْ لا يَأْتِي مَقْعَدَهُ إِلَّا رُمِيَ بِشِهَابٍ يُحْرِقَ ما أصَابَ، فشَكَوْا ذَلِكَ إلى إبْلِيسَ، فقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا مِنْ أمْرٍ قَدْ حَدَثَ. فَبَثَّ جُنُودَهُ، فإذا هُمْ بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْ نَخْلَةٍ، فأتَوْهُ فأخْبَرُوهُ، فقَالَ: هَذَا الحَدَثُ الذِي حَدَثَ في الأَرْضِ. و عنِ ابنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الرَّمْي بِالنُّجُومِ: أكَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ولَكِنَّهُ إذْ جَاءَ الإِسْلَامُ غُلِّظَ وَشُدِّدَ. وثَبَتَ تَعَدُّدُ وُفُودِ الجِنِّ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِنَّ الذِينَ جَاؤُوا أَوَّلًا كَانَ سَبَبُ مَجِيئِهِمْ مَا ذُكِر في الحَدِيثِ مِنْ إرْسَالِ الشُّهُبِ، وسَبَبُ مَجِئِ الذِينَ في قِصَّةِ ابنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ جَاؤُوا لِقَصْدِ الإسْلَامِ، وسَمَاعِ القُرْآنِ، والسُّؤَالِ عَنْ أَحْكَامِ الدِّينِ.

<<  <   >  >>