للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: لَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْنَا مَكَّةُ، وَأُوذِيَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفُتِنُوا، وَرَأَوْا مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ فِي دِينِهِمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ عَمِّهِ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَكْرَهُ مِمَّا يَنَالُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، فَالْحَقُوا بِبِلَادِهِ، حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ"، فَخَرَجْنَا إِلَيْهَا أَرْسَالًا حَتَّى اجْتَمَعْنَا، فَنَزَلْنَا بِخَيْرِ دَارٍ، وَإِلَى خَيْرِ جَارٍ - النَّجَاشِيِّ - فَآمَنَنَا عَلَى دِينِنَا، وَلَمْ نَخْشَ مِنْهُ ظُلْمًا وَعَبَدْنَا اللهَ، لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّا قَدْ أَصَبْنَا دَارًا وَأَمْنًا ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ فَيُخْرِجَنَا مِنْ بِلَادِهِ، وَيَرُدَّنَا عَلَيْهِمْ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الْأَدَمُ (١) فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلَّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ (٢) هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلَّا دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ ثُمَّ قَالَا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِيَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْنَا وَلَا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ، ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالَا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ، مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَإِنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ فَتَمْنَعَهُمْ بِذَلِكَ فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا، فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ ثُمَّ قَالَ: لَا وَاللهِ لَا أُسْلِمُ قَوْمًا لَجَئُوا إِلَى بِلَادِي، وَاخْتَارُوا جِوَارِي عَلَى جِوَارِ غَيْرِي حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَاذَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا تَقُولُونَ، أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا وَلَمْ أُخَلِّ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي.


(١) الأدَم: الجلد المدبوغ.
(٢) البطريق أو البطريرك: رئيس رؤساء الأساقفة عند النصارى، وهو فوق القس، والقس غالبًا هو المتفرغ للعبادة وخدمة الكنيسة. ويطلق البطريق على العظيم من الروم، والحَاذِقُ بالحَرْبِ وأمُورِهَا بِلُغَةِ الرُّومِ. والبطارقة بفتح الباء قواد الملك وخواص دولته وأهل الرأي والشورى منهم، والوزراء، واحدهم بِطريق -بكسر الباء-.

<<  <   >  >>