للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ مَكَّةَ أَتَوْهُ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ السِّقَايَةِ (١) وَالسِّدَانَةِ (٢)، وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ يَثْرِبَ، فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هَذَا الصُّنَيْبِيرُ (٣) المُنْبَتِرُ (٤) مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا؟

فَقَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ، فَنَزَلَ عَلَى رَسُول اللَّهِ {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (٥)، وَنَزَلَتْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}.

ثُمَّ رَجَعَ كَعْبٌ إِلَى المَدِينَةِ عَلَى تِلْكَ الحَالِ، وَأَخَذَ يُشَبِّبُ (٦) فِي أَشْعَارِهِ بِنِسَاءِ الصَّحَابَةِ، وَيُؤْذِيهِمْ بِسَلَاطَةِ لِسَانِهِ أَشَدَّ الإِيذَاءِ.

فَحِينَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ لِكَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ؟ (٧) فَإِنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ"، فَانْتَدَبَ لَهُ: مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ، وَعَبَّادُ بنُ بِشْرٍ، وَأَبُو نَائِلَةَ سِلْكَانُ بنُ سَلَامَةَ، وَهُوَ أَخُو كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَالحَارِثُ بنُ أَوْسٍ، وَأَبُو عَبْسِ بنِ جَبْرٍ، وَكَانَ قَائِدَ هَذِهِ المَجْمُوعَةِ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ".

فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَائْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ (٨) شَيْئًا، قَالَ: "قُلْ". فَذَهَبَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ إِلَى كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ -أَيْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَنَّانَا (٩) وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمُلَّنَّهُ. (١٠)


(١) السِّقَايَة: هي ما كانت قريش تَسْقِيهِ الحُجَّاج من الزَّبِيب المَنْبُوذ في الماء.
(٢) سَدَانة الكعبة: هي خِدْمَتها وتوَلِّي أمرها.
(٣) الصُّنَيْبِيرُ: تصغيرُ الصُّنْبُورِ، وهو الأبْتَرُ، لا عَقِبَ له، وأصل الصُّنْبُورِ: سعفَةٌ تَنْبُتُ في جِذع النخلة لا في الأرض، وقيل: هي النخلة المنفردة التي يَدِقُّ أسفلها، أراد أنَّه إذا قُلِع انقطع ذكره، كما يذهب أثر الصنبور؛ لأنه لا عقب له.
(٤) المنبَتِرُ: الذي لا وَلَدَ له، أرادوا أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يَعِشْ له ولد.
(٥) فتوهموا -أي هؤلاء الكفار- لجهلهم أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا ماتَ بنوه ينقَطِعُ ذِكْرُه، وحاشا وكَلَّا، بل قد أبقى اللَّهُ ذكره على رؤوس الأشهاد، وأوجب شرعه على رِقَاب العباد، مستَمِرًّا على دوام الآباد، إلى يوم الحشرِ والمعاد، صلوات اللَّه وسلامه عليه دائمًا إلى يوم التناد.
(٦) شَبَّبَ بالمرأة: قال فيها الغَزَل.
(٧) أي؛ مَنِ الذي ينتَدِبُ إلى قتله.
(٨) كأنه استأذنه أن يفتَعِلَ شيئًا يَحْتَال به، ومن ثمَّ بوب عليه البخاري في صحيحه: باب الكذب في الحرب، كأنهم استأذنوا أن يشكُوا منه ويعيِّبُوا رأيه.
(٩) عَنَّانَا: بتشديدِ النون الأولى: من العَنَاءِ وهو التَّعَب. يعني: أتعبنا.
(١٠) أي: يتضجَّرُون منه أكثر من هذا الضَّجَرِ.

<<  <   >  >>