للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم قام بتحطيم الأصنام في يوم عيد قومه وترك كبير الأصنام، فلما رجعوا ووجدوا أصنامهم محطمة أخذوا يبحثون عن الفاعل، فذكر بعضهم أن إبراهيم هو الذي كان يعيب الأصنام ولم يخرج معهم إلى العيد. فلما أحضروه وسألوه عما يتهم به من تحطيم الأصنام؛ جادلهم مُتَهَكِّمَاً أن كبير الأصنام هو الذي حطم بقية الأصنام، وطلب منهم سؤال الأصنام عن ذلك. فأدركوا ضعف أصنامهم وأنها لا تنطق، ولكنهم لما غلبتهم الحُجَّة؛ استكبروا وقالوا إنك تعلم أنها لا تنطق. فعاب عليهم عبادة ما لا ينطق ولا ينفع ولا يضر ولا يستطيع الدفاع حتى عن نفسه، وأنه لا يخاف من أصنامهم شيئاً ولا يخشى إلا الله. فأرادوا الانتقام لأصنامهم وتحريقه بالنار وشَرَعُوا يَجْمَعُونَ حَطَبًا مِنْ جَمِيعِ مَا يُمْكِنُهُمْ مِنَ الْأَمَاكِنِ، فَمَكَثُوا مُدَّةً يَجْمَعُونَ لَهُ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُمْ كَانَتْ إِذَا مَرِضَتْ تَنْذِرُ لَئِنْ عُوفِيَتْ لَتَحْمِلَنَّ حَطَبًا لِحَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى جَوْبَةٍ (١) عَظِيمَةٍ فَوَضَعُوا فِيهَا ذَلِكَ الْحَطَبَ، وَأَطْلَقُوا فِيهِ النَّارَ فَاضْطَرَمَتْ وَتَأَجَّجَتْ وَالْتَهَبَتْ، وَعَلَاهَا شَرَرٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ قَطُّ، ثُمَّ وَضَعُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِفَّةِ مَنْجَنِيقٍ صَنَعَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْأَكْرَادِ يُقَالُ لَهُ هِيزَنُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَعَ الْمَجَانِيقَ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَخَذُوا يُقَيِّدُونَهُ وَيُكَتِّفُونَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الْمُلْكُ لَا شَرِيكَ لَكَ. ووُضِعَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ مُقَيَّدًا مَكْتُوفًا، ثُمَّ أَلْقَوْهُ مِنْهُ إِلَى النَّارِ، وكَانَ الْوَزَغُ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ النَّارَ. وكَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ: {حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، وَصَارَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مِثْلِ الْجُونَةِ (٢) حَوْلَهُ النَّارُ، وَهُوَ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ. وكانت آية من آيات الله، فخرج منها سالماً.

ثم حصلت الْمُنَاظَرَةُ التي كَانَتْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ النُّمْرُودِ -وهُوَ مَلِكُ بَابِلَ- يَوْمَ خَرَجَ مِنَ النَّارِ، وَلَمْ يَكُنِ اجْتَمَعَ بِهِ إِلَّا يَوْمَئِذٍ. وناظَرَ إبراهيمَ في وجود الله ورُبوبيَّته وأُلوهيَّته، وما حمَله على ذلك وجرَّأه عليه إلَّا المُلْكُ الذي أعطاه اللهُ له، فاستَكبَر وطغى، وأَنكَر وجودَ الله جلَّ وعلا،


(١) وهي الفجوة بين البيوت، وهي أيضاً: المكان الفارغ المتسع.
(٢) الجونة: سليلة (سلة صغيرة) مستديرة مغشّاة بالجلد، يحفظ العطار فيها الطيب.

<<  <   >  >>