للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَقَالَ مُوسَى: هَاهُنَا وُصِفَ لِي، فَأَطَافَ بِهَا، فَإِذَا هُوَ بِالْخَضِر (١)، مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْقَفَا مُسَجًّى بِثَوْبٍ. فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَكَشَفَ الْخَضِرُ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: هَلْ بِأَرْضِي مِنْ سَلَامٍ؟ مَنْ أَنْتَ؟، فَقَالَ: أَنَا مُوسَى، فَقَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟، قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؟، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ، لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ اللهُ لَا أَعْلَمُهُ، أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ، وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأتِيكَ؟ {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}، شَيْءٌ أُمِرْتُ بِهِ أَنْ أَفْعَلَهُ، إِذَا رَأَيْتَهُ لَمْ تَصْبِرْ، قَالَ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: {فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} قَالَ: نَعَمْ. فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فعَرَفُوا الْخَضِرُ، فَقَالُوا: عَبْدُ اللهِ الصَّالِحُ خَضِرٌ؟، لَا نَحْمِلُهُ بِأَجْرٍ. فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ. فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى، مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ، إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. فخَرَجَ مَنْ كَانَ فِيهَا وَتَخَلَّفَ لِيَخْرِقَهَا، فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ، فَخَرَقَهَا، وَوَتَّدَ فِيهَا وَتَدًا، فَقَالَ مُوسَى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا}؟ قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} يعني: مُنْكَرًا. قَالَ: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟}، قَالَ: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ، وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}، فَكَانَتْ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا. فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ الْبَحْرِ، مَرُّوا بِغُلَامٍ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأسِهِ فَقَلَعَهُ بِيَدِهِ. فَذُعِرَ عِنْدَهَا مُوسَى - عليه السلام - ذَعْرَةً مُنْكَرَةً، فَقَالَ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} مُسْلِمَةً لَمْ تَعْمَلْ بِالْحِنْثِ {بِغَيْرِ نَفْسٍ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}، قَالَ: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟} (٢).


(١) وإِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ، لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ. والفروة: أرضٌ بيضاء ليس فيها نبات، أو الحشيش الأبيض وما يشبهه.
(٢) قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنْ الْأُولَى.

<<  <   >  >>