ثم من بعد هذا العهد أفل نجم فن البلاغة وأظلم البيان العربي وأصبحت الكتابة فيه صناعة لفظية محضة، لا تعبر عن نفسية الكاتب ولا تميز شخصية أديب عن شخصية أديب آخر. وإنما أصبح كل من كتب تقريباً (فنوغرافاً) يحكي لنا صدى أفكار المتقدمين ويسرد علينا تعابيرهم بتغيير طفيف.
وهذا ما حمل أدباء الإفرنج على نقد آدابنا العربية بالجملة، والإزراء بكتاباتنا الأدبية من دون تفريق، حتى قالوا: أنها ألفاظ ترن وجعجعة من دون طحن مع إن بلغاء كتابنا الأقدمين إلى عهد الجاحظ ما كانوا يقيمون للألفاظ رزناً كما فعل من بعدهم: فكانوا يرون أن البلاغة هي المعاني الجميلة الخلابة التي تلبس من لبوس الألفاظ القدر الذي يناسبها، ولا يكون فضاضاً عليها. ولعل الجاحظ من أرباب هذا المذهب: فهو لا يبالي الألفاظ والتأنق فيها والتكلف بها. لك يرسلها كيفما اتفق من دون تعمل ولا تكلف. وكأن سجاحة الألفاظ في عبارة الجاحظ وخلوها من التأنق وتكلف الاستعارة والمجاز والكناية وأفانين الصناعة اللفظية أصبح أمره متعالماً مشهوراً حتى للمتقدمين من أدبائنا: فالبدي الهمذاني جعل في مقاماته هذه: أن عيسى بن هشام ورفاقه كانوا في بعض مجالس الأدب يفاضلون بين الكتاب ولاسيما الجاحظ وابن المقفع. وكان أبو الفتح السكندري (بطل مقامات البديع) مشغولاً بالتهام ما قدم إليه من الطعام حتى إذا اكتفى التفت إليهم وقال:
أين أنتم من الحديث الذي كنتم فيه؟ قال عيسى بن هشام. فأخذنا في وصف الجاحظ ولسنه. وحسن سننه في الفصاحة وسننه. فقال أبو الفتح ياقوم لكل
عمل رجال. ولك مقام مقال. ولكل دار أركان. ولكل زمان جاحظ
ولو انتقدتم لبطل ما اعتقدتم.
فكل كشر له عن ناب الأنظار. وأشم بأنف الإكبار. وضحكتُ له
لأجلب ما عنده. وقلت: أفدنا وزونا. فقال: إن الجاحظ في أحد شقي
البلاغة يقطف (١). وفي الآخر يقف والبليغ من لم يقصر نظمه عن نثره. ولم يزر
كلامه بشعره. فهل ترون للجاحظ شعراً رائقاً؟ قلنا لا. قال: فهلموا إلى نثره
فهو بعيد الإشارات. قليل الاستعارات. قريب العبارات. منقاد لعريان (٢)
الكلام يستعمله. نفور من بديعه يهمله فقل سمعتم له لفظة مصنوعة. وكلمة غير مسموعة