ولا نسمح لأنفسنا أن نقول: أن حسن الألفاظ لا شأن لها في البلاغة والفصاحة وإنما نقول: إن الإفراط في التأنق ومراعاة الصناعة اللفظية يؤدي إلى التكلف والإحالة وأن الاهتمام بانتقاء الألفاظ والحرص على حشرها في الكلام يلهى السامع عن تعقل المعاني فيضطرب فهمه. وتنقطع سلسلة تفكيره. ويقد الكلام قوة تأثيره. وإذا ضاع التأثير ضاع كل شيء.
فالمعاني طيور. تحملها أجنحة الألفاظ إلى أوكار الأذهان. فإذا لم تكن
الأجنحة خفيفة مرهفة، بل كانت كثيفة مثقلة بضروب الزينة والجمال مصنوع ثقلت الأجنحة فوقع الطائر دون الغاية. فلنجتهد إذن في أن تكون أجنحة الفاظنا كأجنحة الطيور وإلا عجزنا عن إيصال المعاني إلى الأفكار. والطيور إلى الأوكار هذا ما عابوا به آدابنا العربية بوجه عام. ويمكننا ن نشير إلى بعض ما عابوها به بوجه خاص.
ذلك أن طائفة كبيرة من أدبائنا أولعوا باستعمال مجازات وكتابات وإشارات لها معان يقبح ذكرها. وتنفر النفس من تفسيرها. ففي أواخر القرن الماضي كتب بعض كتاب العرب في جريدة (الجوائب) التي كانت تصدر في الأستانة لمحررها العلامة (أحمد فارس الشدياق) مقالاً انتقد فيه الآداب الإفرنجية وقال: إن الإفرنج ليس له ذوق في الأدبيات. وكان حامل راية الأدب في ذلك العصر (نامق كمال) أديب الترك المشهور. فرد على الكاتب العربي قوله ولمز (الأدبيات العربية) فقال: نحن لا ننكر سعة اللغة العربية ولطافتها ولا مهارة أدباء العرب وفطانتهم حتى أن آثار العرب الأدبية ترجح على مؤلفات كل لغة.
ولكن القول بأن أدباء الإفرنج مجردون عن الذوق لا يمكن التسليم به. وإن قول أدباء العرب (يفتض إبكار المعاني) و (فلان أبو عذر هذا الأمر) و (قول امرئ القيس فمثلك حبلى إلى إذا ما بكى من خلفها الخ) وقول الحماسي: وفخذان بينهما نفنف الخ وقول ابن النبيه في وصف الخمرة (عذراء واتعها الغمام أما ترى - منديل عذرتها بكف سقاة) - وغير ذلك من التعابير الشائعة في منثور أدباء العرب كل ذلك لا يمكننا إلا أن نعده منافياً للذوق الأدبي السليم.
لكن (نامق كمال) عاد فاعتذر في المقال نفسه عن وقوع هذه الهنات في آدابنا العربية