رأى دور كايم كما رأى الكثيرون من قبله إن حياة الجماعات هي غير حياة الأفراد وان الفرد الواحد يحس ويفكر ويعمل وهو مجتمع مالا يحسه ويعمله ويفكر به وهو منفرد وان الجماعات وان تألفت من أفراد فكيانها غير كيان الأفراد وأحكامها غير أحكامهم وان هذه الأفراد كالعناصر العضوية إذا هي اجتمعت كان لها من الخصائص مالا تملكه وهي مفترقة ولذلك فقد جعل هذه الجماعات الهدف الذي يرمي إليه في علمه كما إن علماء البسيكولوجيا جعلوا مشاعر الفرد وعواطفه وتصوراته وأهواءه هدف علمهم وموضوع بحثهم. ثم رأى دور كايم أن للهيآت الاجتماعية من المظاهر والقواعد والأصول ما يخضع له الفرد مضطرا لا اختيار له فيه فالمذهب الذي ننتحله واللغة التي نتكلمها والقواعد التي نجري عليها والنظم والتقاليد التي نخضع لحكمها والنزعة التي ننزعها ليست جميعها أثرا من آثار الفرد أو نتيجة من نتائج عمله بل هي حادثات اجتماعية أملتها علينا الجماعة التي نشأنا فيها ولدنا فتجمدت في أدمغتنا وتحكمت في عقولنا وسيرتنا تبعا لأهوائها حتى أصبحت وكأنها قطعة من نفوسنا نكاد لا نشعر بسيطرتها علينا وتحكمها فينا. وجد علماء الاجتماع وعلى رأسهم دور كايم وأصحابه إن لهذه الحادثات الاجتماعية في تطورها وتحولها وتأثيرها على النفوس قواعد وسننا يجب تسجيلها وتصنيفها فجعلوها موضوع علمهم وقالوا علم الاجتماع هو علم الحادثات الاجتماعية، وانبروا يبحثون وينقبون عن ذلك بفرضيات وضعوها ثم سعوا لتأييدها بوصف الواقع ووصف مظاهره تبعا للأصول العلمية التي جرى العلماء جميعا عليها في تأييد علومهم واكتشاف قوانينها ونظمها الثابتة وافترقوا بذلك عن أصحابها الفلاسفة الذين اعتادوا أن يعالج الموضوعات الاجتماعية كغيرها من المباحث الفلسفية بطريق التحليل اللفظي والجدل الفكري والتعميم الذي لا يستند إلا على النظريات الفلسفية التي كثيرا ما تناقض الواقع وتخالفه في كل مظاهره.
ولقد راع بعض الناس أن يروا طائفة من العلماء يقدمون على درس الحادثات الاجتماعية التي لها مساس بالدين والعقائد والتقاليد وجميع مظاهر الفكر على هذا الشكل الذي تدرس به بقية العلوم كعلمي الكيمياء والفيزياء مما لم يعتادوه أو يألفوه
شأنهم مع كل جديد لا يتفق مع ما تمركز في العقول من المبادئ والآراء القديمة وزاد في