للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بعضهم أميل إلى التأثر بالكلام منه إلى التأثر بالمادة. إلا تقول العامة في بلادنا إن الكلمة الطيبة تخرج الحية من وكرها، إلا يسعى المشعوذون لإخراج الشياطين من صدور المجانين بالألفاظ التي يهمسون بها إليهم. وكم عليل تحسن حاله بالكلام، وكم هم بدده سحر البيان وقوة البلاغة. فكأن الألفاظ أدوية وكأن الخطباء أطباء.

ومن تأثير الألفاظ عند الشعوب الأولية إنها كانت تحرس المال وتحفظ الملك كما كانت تشفي من الأمراض. فكان الإنسان لا يجسر أن يسرق أموال أخيه خوفا من الألفاظ، لان الذي سرقت أمواله ينادي بالويل والثبور ويشتم ثم يدعو إلى الله أن يصاب السارق بالمرض والجوع والغرق والحريق والهلاك. فإذا علم السارق بذلك ارجع ما سرقه إلى صاحبه خوفا من تأثير تلك الألفاظ وسحرها، وكان الناس يكتبون بعض الألفاظ على الواح من الحجر أو من الرصاص ويضعونها في المحل الذي يريدون أن يحرسوه أو في معبد الإله الذي يبتهلون إليه ولا يزال قسم كبير من هذه العادات موجودا اليوم عند قبائل (الداياك) من جزيرة بورنئو.

وهذا ما يدعو إلى القول أن الألفاظ سلاح يستطيع الإنسان أن يدافع به عن ماله كما يستطيع أن يدافع به عن نفسه. نقل لي احدهم أن في بلاد الأفغان عادة تقضي أن يستأجر النساء المتخاصمات شتامات كنا نستأجر في بلادنا ندابات. كل شتامة تنازل أختها باللعنات والشتائم. فإذا غلبتها شعرت موكلتها بلذة الانتصار وشرف الغالب. فهناك إذن مبارزة تقتصر على اللفظ ولا تحتاج إلى الفعل وهي اقل خطرا من المبارزة بالسلاح. وكم مرة خلص الكلام صاحبه من القتل. من ذلك أن الحجاج ضرب مرة أعناق أسرى فلما قدموا إليه رجلا ليضرب عنقه قال: والله، لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو فقال الحجاج أف لهذه الجيف أما كان فيها احد مثل هذا وامسك عن القتل. فالمعاني المختلجة في النفوس والمتصلة بالخواطر لا تجدي نفعا إذا لم يظهرها اللفظ وتدل عليها الإشارة.

وكما يصح أن نقول إن الألفاظ سلاح فكذلك يمكن القول إنها ثروة. فالخطيب والمحامي والأستاذ يتاجرون بالألفاظ ويبتاعون الرطب بالخطب. ولولا استثمارهم للألفاظ كما تستثمر رؤوس الأموال لما نجحوا في أعمالهم. ولعل تجارة الألفاظ أكثر إنتاجا في بعض الأحيان من تجارة البضائع ومبادلة الأموال، لان معينها لا ينضب ولا يجف بكثرة الاستعمال بل

<<  <  ج: ص:  >  >>