يحسنها الصقل ويزيد قوتها الانتقال وهكذا فان الألفاظ واسطة من الوسائط التي استطاع الإنسان أن يتغلب بها على الطبيعة حتى لقد كان الملوك يستمطرون الرحمة من السماء بالألفاظ التي كانوا يبتهلون بها كأن لألفاظهم تأثيرا في حوادث الكون فكانت الأمطار تهطل بتأثير الألفاظ كما يزداد الخصب ويمتنع الجراد وتزول الأوبئة.
جاء في كتاب (عمل بسيشه) لفريزر، إن الكارنيين من قبائل برمانيا يعتقدون أن للزنى مثلا تأثيرا في الطبيعة فإذا انقطع المطر وأجدبت الأرض اجتمع عقلاء القبيلة وابتهلوا إلى الله أن يعاقب الجاني. ثم إنهم يبتاعون خنزيرا ويذبحونه ويعطون كلا من الزاني والزانية رجلا من رجليه ثم يشقون في الأرض تلما ويملأونه من دم الخنزير ويرددون هذه الألفاظ: يا اله السماء والأرض ورب الجبال والآكام. لقد أيبست ثمار الأرض بعملي، فلا تؤاخذني، ولا تبغضني لأنني جدير برحمتك وعفوك. انظر إلي. ها أنا ذا أصلح الجبال واحيي الروابي والأنهار. رب رحماك لا تضع أتعاب الناس ولا تهلك أموالهم الخ. (ص - ٨٠) ويعتقدون إنهم يستطيعون بمثل هذه الألفاظ أن يؤثروا في حوادث الطبيعة ويعتبروا مجرى النواميس وهناك أمثلة عديدة مقتبسة من عادات الشعوب وأخلاقهم تدل على هذا السحر في الألفاظ.
ولو لم يكن في الألفاظ إلا تأثيرها في نقل الأفكار وتفهم المعاني لكفى بذلك دليلا على سحرها. لولا الألفاظ لما اطلع الإنسان على فكر صاحبه ولا إدراك ما هو قائم في صدر أخيه. فبالألفاظ تحيي المعاني وعلى قدر وضوحها ودلالتها يكون البيان. والمعنى لا يظهر ولا ينقل من الضمير إلى الضمير ولا يمر من القوة إلى الفعل ولا يثبت إلا باللفظ. فلولا الألفاظ لما أمكن حصر القياس ولا حسن الاختصار ولا دقة المدخل في الكلام. ولولاها لما ثبت المعاني العلمية. ولا أغالي إذا قلت أن الاصطلاحات العلمية تعادل نصف العلم.
فها أنت ترى أن للألفاظ شأنا عظيما في الشعور والتفكير والإرادة وحسن الدلالة فقد توحي إليك بالمعنى الذي لم يخطر على قلبك وقد تفسد المعنى اللطيف وترفع المعنى الوحشي. ولا غرو إذا عشق الناس الكلام والكلام أصل الوجود: في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله وقال فيكتور هوغو: اللفظ هو الكلمة والكلمة هو الله. فكأن اللفظ آلة للسحر وكأن الكلام إله معبود