ولو لم أقف من سحر الألفاظ إلا على هذه الأمثلة لوجدتها كافية، إلا أن هناك أمثلة عديدة تدل على سحر اللفظ وتدل في الوقت نفسه على مضرته. وأنا لم امتدح
لك الألفاظ إلا لا حذرك من معاطبها. ثم أن الألفاظ تثبت المعاني وتعين الفكر، إلا أن تصور المعنى يسبق الدلالة باللفظ والإنسان لا يستطيع أن يوضح باللفظ عن كل ما في نفسه من المعاني المكنونة والأفكار الخفية حتى قال العلماء إن الألفاظ لا تدل على قسم مما يخالج النفس من المعاني، لأنها محصورة معدودة أما المعاني فعير محصلة غير محدودة وهذا ما يعبرون عنه بقولهم إن المعاني متصلة والألفاظ منفصلة. وقد يحمل الاهتمام بالألفاظ على إهمال المعاني فيفتتن الكاتب باللفظ دون المعنى ويشوه الفكر حبا بموسيقيه الألفاظ وينسى أن للأفكار جمالا بذاتها حتى لقد يبعثه هذا الغرام بالألفاظ على استعمال الكلام دون فهم معانيه فيحدثك عن شآبيب الرحمة وافواف الوشي وهو لا يفهم معنى ما يقول. ولكن أعجبه ما في العبارة من الوقع وما في نغمتها من الصدى فاستعملها وستر معناها بحجاب من الرضا والإغضاء. إن شدة الاعتناء بالألفاظ توقف نمو الفكر فيصبح آلة تكرر ما حفظت وتغربل ما نقل إليها من غير أن تبدع. وقد قيل أن إضاعة العمر بالوسائل مانعة من الوصول إلى المقاصد لقد ورثنا هذا الشغف بالألفاظ عن أجدادنا فتأخر الإبداع في آدابنا وازداد تقيدنا بالأوضاع المعروفة والتعابير المألوفة. وقد فتنتنا صناعة اللفظ حتى ذهلنا عن المعاني. وما أكثر أدباءنا الذين أضاعوا عمرهم في وزن السجع وصقل الألفاظ. أنهم يكتبون بلغة غير طبيعية ولهجة غير معتادة كأن بساطة التعبير حرمان من الأدب أو كأن وضوح العبارة نقص من العلم. قرأت في كتاب للموسيو (لودانتك) إن استعاذا من أساتذة الفلسفة كتب على إحدى مقالات تلاميذه ملاحظة قال فيها: إن عبارة المقالة واضحة جدا وان القارئ يفهمها بسهولة. وقد قال فولتير عن نفسه انه مثل الجداول الصغيرة فهي شفافة لأنها غير عميقة. . ولكن هل يجوز أن تكون اللغة العلمية غير واضحة. إن الذي يريد أن يكتب المواضيع العلمية
بلغة الحريري أو بلغة الهمذاني أشبه بالمرأة الجميلة التي تفسد جمالها بالمساحيق.
ولم يقتصر حب الألفاظ على الأدباء بل عم العلماء أيضا حتى نظموا العلوم شعرا فهناك أراجيز للنحو والمنطق والطب تدل كلها على هذا الميل المخالف للطبيعة. إن نظم الطب