للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لقد ودعني السيد الشرقاوي بين أولئك الرجال المتربعين أمام جدران الأسواق كأنهم قد طردوا من نفوسهم كل فكرة أو كأنهم صمموا أن يعيشوا نائمين لا حراك لأجسامهم المسندة ولا حركة في أعينهم الشاخصة.

وبينما كان القاص العربي يتكلم في المقهى وقد أحاط به السامعون كأنهم هالة من الصوف الأبيض قلت في نفسي: إن الله لا يترك أحدا. إن الناس لا يبدلون ما هو مقدر مكتوب. ما اشد اعتقاد الشرقاوي وما أقوى إيمانه بهذا المذهب! إن حياته مطمئنة هادئة. أما نحن الأوروبيين والأميركيين فلا نستطيع احتمال هذا الركود فنتكهن ونتنبأ ونحسب وندبر ونبدل ما هو مقدر ولا نرضى بالعدالة

الإلهية ولا نرتاح لهذا العالم الذي أبدعه الخالق. نعم، إننا نتنبأ، ولكننا نتنبأ ونخطئ، ثم نعمل ونبني، ونهدم ما بنيناه، وننتج، ويولد الإنتاج قسوة الفقر وشقوة الفاقة في حياتنا. فهل نحن أكثر حكمة وأحسن حالا من هؤلاء الباعة الذين يشترون النساء والسجاد ويتمتعون بقوة أجسادهم ونضارة شبابهم؟.

وكانت وجوه بعض الراقصين تشبه وجوه الأولين بلونها النحاسي وعيونها الواسعة الجاحظة، فقلت في نفسي:

إن الإنسان لا يبدل ما هو مقدر مكتوب

لا أذكر الآن ممن سمعت هذه العبارة قبل هذه المرة:

ليس في الإمكان أبدع مما كان.

كل ما أذكره إنني كنت في بلاد النور مانديا واقفا إلى جانب احد الأبواب انظر عن كثب إلى الوادي المحصور بين الآكام. وكانت الخيل تعدو بين أشجار التفاح الباسقة. وكان السكون عميقا لا تقاس قوته إلا بضجة المحرك البعيدة.

هناك قال لي المالي لا يجوز أن نبدل شيئا. هناك قال لي المالي يجب أن ندع المقادير تجري في أعنتها، لنترك قليل الفطنة يهلك في معترك الحياة. هناك سمعت الاقتصادي يقول لي وهو يقطف الأزهار، أن كل مداخلة وكل تجربة تمنع النواميس الاقتصادية من أن تجري مجراها.

فالمالي يقول أطلق لنواميس الطبيعة العنان ولا تقيدها والشرقاوي يقول أن الإنسان لا يبدل

<<  <  ج: ص:  >  >>