فهل صدق ليت شعري الطغرائي بهذه الصفات التي من جملتها أسو جرح الحادثات أم أن أعذاب الشعر أكذبه، وأعجبه أغربه؟
وإذا خطر لكاتب أن يصف بلدة قال مثلاً: بلدة ترابها عبير وحصباؤها عقيق وهواؤها نسيم وماؤها رحيق، كوكبها يقظان، وجوها عريان، يومها غداة وليلها سحر، وما أشبه ذلك من التفاهة والهذر، وتراه في وصف الحصن يقول: حصن كأنه على مرقب النجم، ومجير من القدر الحتم، يحسر دونه الناظر، ويقصر عنه العقاب الكاسر، يكاد من علوه يغرف من حوض الغمام، انتطق بالجوزاء وناجت يرجوه أبراج السماء، ونحو ذلك من الخرطوالهراء، هذا والحصن طبقة أو طبقتان من البناء، فكيف وماذا ليت شعري نقول لو أردنا أن نصف نواطح السحاب من الأبنية الأمر بكية وهي طبق، وقد تبلغ أو تتجاوز حد الأربعين من الطبقات فتنطح بالفعل الغيوم، وتكاد تصعد لتتحلى بالنجوم! ثم إذاهم بوصف دار سرية لم يستعمل من التعابير إلا ما لا معنى له مما يخصص دارا، ولا يصور منها شرفه ولا جدارا ولا يذكرها حيا ولا جوارا، كقوله مثلا: دار تخجل منها الدور، وتتقاصر لها القصور، هي دائرة الميامن ودارة المحاسن قد أخذت أداة الخنان وضحكت عن العبقري الحسان، يخدمها الدهر، وياويها البدر، ويكتفها النصر وهلم جرا.
وإذا أخذ في وصف روضة صورت فيها يد المطر أبهج الصور قال: روضة كالعقود المنظمة، على البرود المنمنمة، نشرت طرائف مطارفها، ولطائف زخارفها، فطوي لها الديباج الخسرواني، ونفي معها الوشي الأسكندراني كأنما احتفلت لوفد، أو هي من حبيب على وعد: كلام طلي مزخرف معسل، ولكنه لا يبلغنا من الوصف المأمول! هذه هي تعابير الوصف قديماً في النثر، وأما في الشعر فاسمع مثلاً ما يقول أبو الحسن اللامي تلبية لطلب عضد الدولة بن بويه في وصف شعب بوان، وانظر كيف ينطبق قوله هذا على غوطتنا الفيحاء وأشجارها وأطيارها وأنهارها:
أمرر على الشعب وأنزل روضة الانفا ... قد زاد في حسنه فازدد به شغفا