إذا سمعت (بودلير) يقول: أنا قبر. . أو (فيرلين) يقول: أنا باخرة إلخ. . عرفت أنهما يشبهان حالة نفسية بصورة خارجية، فبودلير إنما أراد أن يقول أنه لما انحنى على نفسه، كما يقول الغربيون، وطاف في أعماقها، وجد أنه قبر يزخر بالموتى. و (فيرلين) رأى نفسه في لحظة ما باخرة يسيرها الريح على ما يشتهي!
هذه أمثلة ما كان يصح لنا أن نسلخها من صورها وننتزعها من (إطاراتها) ولكننا أقدمنا على ذلك لنقرب الرمز من فهم القارئ العربي الذي لم يدرس الحركة الجديدة في أدب الغرب، ولنمهد بهذا لبحوث قابلة ندرس فيها طائفة من القصائد الرمزية ونستعين بها علىتنويرعالم الرمز، هذا العالم الثائر علىالتحليل. . مثل ثورة الفتاة التي يقول فيها (بودلير) يجيب الشيطان الذي سأله عن أحب شيء فيها إلى قلبه: ما دامت كلها كنعنعة الماء فلست أفضل بعضها على بعضإنها تسحر كالفجر وتسلي كالليل. . نفسها يخلق الموسيقى وصوتها يبعث العطروالحق أن سحر الشاعر الرمزي أقرب إلى سحر الموسيقى منه إلى سحر القول، والشاعر يتخذ العالم وسيلة لإنماء أنانيته الطيبة المباركة ودرسها ليس غير، فهو في ذلك يشبه نبع أوسكار وايلد ولكن في غير صلف.
. . . أتعرف قصة النبع؟
لما ماتت النرجسة، حزنت عليها أزهار الحقل كثيراً، وراحت إلى النبع تسأله قطرات من الماء تبكيها بها. فقال النبع: لو كانت قطرات مائي كلها دمعاً، لما كفتني وحدي، لأنني كنت أعشقها. فأجابت الأزهار: نفهم يانبع أن تحبها، بل ما كانت لك مندوحة عن حبها لأن النرجسة كانت بارعة الجمال.
قال النبع: وهل كانت جميلة حقاً؟
فأجابت الأزهار: ومن يعرف ذلك أكثر منك وأنت الذي كانت تنحني على موجك ويتراءى جمالها كل يوم في مائك الرقراق؟
قال النبع: أنا إذا أحببتها فذلك لأنني كنت أرى في عينيها وهي تنحني علي صورة جمالي! هكذا شاعر الرمز. يرى في الأشياء صورة نفسه وحياة قلبه. . وقيمة الأشياء بما أودع فيها الشاعر من سره وهذا السر هو ما يجب أن نراه!. . . وحده!