للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الديني من جرائها، فهو قد جاء بآراء كثيرة لا تزال سائدة بين كثير من الباحثين، كرأيه في المصادر التي استقت منها أسفار موسى الخمسة في التوراة، وتبيانه للحدود الإنسانية الانتربوومورفيه فيما كتبه بعض القديسين وأظهروه من فكرات وميول متباينة. ولكنه كان يتكلم ويكتب في بعض الأحايين بلهجة تم عن قبول للتقليد وإيمان بالنقل. فهو يفرض دون جدل أن الكتاب المقدس كلمة الله وأن اليهود شعب الله المختار وقد وصف المسيح بأسلوب غريب في صدوره عن يهودي ومفكر حر فقال وليس المسيح نبياً فحسب بل هو لسان الله الناطق أرسله للعنصر الإنسان كله لا لليهود فقط.

وليس من الموافق أن تقتصر دعوته على إرضاء الفكرة اليهودية والاندماج بها، بل على الاستجابة للفكرة والتعاليم الرئيسية التي تنتظم الإنسانية جمعاء بها - فتؤدي هذه الدعوة إلى استقرار الأفكار الشاملة الصادقة في أذهان البشر.

ولكن البصير يلمح وراء هذه اللهجة الورعة الظاهرة غاية فلسفية تدل دلالة صادقة على أن سبينوزا إنما يعمد في قوله السابق إلى الغوص في أعماق العقل بعيداً عن ملابسات الوحي وغوامض الإلهام. وفي هذا لم يستطع أكثر النقاد المتأخرين ميلاً إلى الإصلاح من التفوق عليه. وليس الآلة في نظر سبينوزا سوى هذا الكون الشامل في امتداده وسائر تفاصيله، ولذا فعل الله ليس هو الله نفسه، بل صفة من صفاته ومظهر من مظاهره منتشرة في المكان وملابسة للزمان. بل هي هذا الوعي الذي ينفذ إلى كل شيء فيملؤه حياة وقوة وقولنا أن عقل الله قد تجلى لموسى أو ظهر في المسيح كقولنا أن روح الموسيقي قد تجلت لباخ أو لبيتهوفن ليست النبوى سوى فكرة تخيلية، والخيال لا يكون صادقاً إلا إذا قادته البصيرة إلى التنبؤ عن اتجاه الحوادث المرتبطة بالطبيعة بأوثق الأواصر وأوضحت له المبادئ الخلقية الملائمة لتطور الجماعة وكل ما في الكتاب المقدس من قوة - في نظر سبينوزا - يعزي إلى مبادئ الفضيلة الحقيقة التي ضمها بين دفتيه. وما نسميه منحة من الله إنما هو رغباتنا ومطامحنا التي نصبو إلى تحقيقها ونتمكن من الحصول عليها بأنفسنا. أما المعجزات فهي حوادث خارقة تلائم ظروف الدعوة وتلابسها وأسبابها الطبيعية المعقدة تحمل الأفهام الضيقة على النطوح في مهاوي الخدس ودياجير التأويل وقد حالو سبينوزا أن ينجز العمل الذي بدأ به الأنبياء بعد أن عمد إلى تفسير تعاليمهم وأصبح نبياً ذا رسالة.

<<  <  ج: ص:  >  >>