للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مركزها في المخيلات المريضة، وأن التوراة لا تتضمن أية إشارة لخلود النفس. ولما وجد نفسه منبوذاً من الجمهير الجامدة وأدعياء المعرفة أخذ يشتغل ويقتات من صقل عدسات المجاهر والآلات البصرية، وينمي ملكاته ومواهبه ويزيد في معلوماته حتى أصبح محققاً نهابهاً هل الأنظار والأسماع وقد بنى فلسفته على ثلاث دعائم (١) اليهودية العقلية (٢) منهج ديكارت (٣) ومذهب (هوبس) في السياسة. ولما دعته جامعة هيدلبرغ لتدريس الفلسفة فيها أبى واستنكف محتفظاً بحريته التامة بأوقات فراغه يتصرف بها كيف يشاء، وآثر أن يعيش عيشة القناعة والانفراد بعيداً عن سخف الناس وهذرهم. ولكن هذا لم يكن حائلاً دون تعرفه على كثير من الأفراد النابهين الذي شاركوه في نزعته العقلية فكان في علاقاته يهم محدثاً لبقاً ووطنياً مخلصاً وجاراً ودوداً يشيد دائماً بذكر السعادة التي تملأ جوانب نفسه وهي سعادة حقيقة تصدر عن إيمان عميق. في ركن من بيت الطبيعة العظيم أقام، شاعراً بوضاعة الإنسان، راغباً أن يؤدي به هذا التأمل إلى الهدوء وراحة البال. كان هذا البيت العظيم معبداً يقدس فيه مظاهر العظمة والنظام الدقيق غير حالم بإصلاحه أو زيادة شيء عله لا يقبل التحيز فيه. وكان يعمل في تنفيذ الواجبات الواقعة على عاتقه والسرور يملأ قلبه.

ولم يك هذا السرور عاطفة جامحة بل إدراكاً نيراً وحصافة لا يقطع مجراهما إلا الموت. ونحن نلمس هذه التقوى الشاملة التي تصطبغ بها حياته في كثير من العبارات التي تتضمنها مؤلفاته موصوفة بجرأة التفكير لا يمازجها اعتقاد بوحي غيبي. وهذه العبارات لا تصدر عن غاية خفية سيئة أو عادة راكدة مستقرة في ثنايا النفس بل هي دليل ناصع على شعور منظم وعقل دقيق.

لا جرم أن انتماء سبينوزا على اليهودية بهذا الوضع الغامض قد أثار اهتمام المحافظين من المذاهب الأخرى لا سيما المسيحيين الذين عاصروه، وليس هذا فحسن، بل إن انفصاله عن الهيئة الدينية اليهودية كان مما دعا إلى استقلاله في حياته وتفكيره ومهد أمامه كل سبيل لدراسة الفكرة والتقاليد العبرية التي كانت مجهلة لدى الكثيرين من كتاب عصره وهكذا أصبح سبينوزا أول واضع لتفسير التوراة التاريخي أونقده العالي. وليس من السهل أن ندرك تأثير هذه الدراسة في عقل سبينوزا. وإن نفيس بالنطاق الذي يصل إليه إحساسه

<<  <  ج: ص:  >  >>