أني أتابع منذ ثلاثين سنة تقريباً هذه الحركة الفكرية فأوصلتني دراستي الطويلة وتأملاتي العميقة إلى نتيجة لابد لي من الجهر بها. وهي أن النتائج التي نتوصل إليها بأحكامنا الباطلة التي أفسدها الصلف وشوهها الإعجاب بالنفس أو أوحت بها العصبية القومية لا يمكن أن تكون إلا رأياً من الآراء أو فرضية من الفرضيات، لا حقيقة علمية يقينية.
ومما يؤسف له أن هذه الفرضيات المتناقصة التي تبحث في منافع الأمم الحيوية وكيانها الوطني تزيد الخلاف الزمني بينها وتولد النفور وتمنع شفاء الأحقاد وإعادة السلام والنظام والتعاون والاتساق إلى عناصر هذا العالم المتمدن. ولو كانت هذه الفرضيات حقائق علمية راهنة لكانت النتيجة على عكس ذلك.
أنا أعرف جيداً أن العلم لا يستغني عن الفرضيات، لأن الفرضية هي ظل الحقيقة والعالم يسعى جهده لأن ينير هذا الظل ويجعله واضحاً. ولكن أحسن الفرضيات بناء يتهدم بسرعة إذا تقتضيه حادثة واحدة. إذن لسنا بحاجة إلى قبول هذه الفرضيات الوهمية في علم ليس له من الصحة نصيب وافر كتاريخ المدينة والثقافة، لأن هذه الفرضيات الوهمية قد يصدرها أصحابها بسرعة أو لغاية قومية فيرضون بها كبرياءهم أو تفوق أجناسهم. ومما لاشك فيه أن خير وسيلة لمعالجة هذا النوع من المباحث وأول شريطة يجب تحقيقها هي أن يتفق العلماء على ملاحظة الحوادث. ولكننا نصادف في هذا النوع من البحث مشاكل نكاد لا نستطيع التغلب عليها، وذلك أن الحوادث التي يبحث فيها تاريخ الثقافة أو فلسفة التاريخ ليست حوادث بسيطة كالحوادث التي تدرسها الكيمياء أو يبحث فيها علم الطبيعة (الفيزياء) لأنها حوادث نفسية واجتماعية تدل بإحدى صورها على أحلام النفس البشرية ورغائبها وعقائدها وتعبر عن النية والذوق والإرادة، ولا يمكن تفهم معنى هذه الحوادث إلا بالتأويل. وهذا التأويل هو غاية فلسفة التاريخ.
المهندس الذي يريد إقامة البناء يهتم بحساب مقاومة المواد التي بين يديه ويكتفي بمعرفة خواصها، أما الاجتماعي والمؤرخ والفيلسوف فأنهم لا يقتصرون على المواد التي بين أيديهم. ولذلك ربما كان من الممتع على حقائق علم الاجتماع والتاريخ وغيرهما من العلوم المشابهة الوصول إلى يقين العلوم الوضعية الثابتة. إن هذه الملاحظة الهامة جديرة بأن تحفظ.